يبدو أن جينات الإنسان هي أيضا أذكى من غيرها. يملك جينوم الإنسان قدرة خارقة على تنويع إنتاجه، وهذا يعني أن جينا واحدا يمكنه إنتاج وتشغيل وظائف كثيرة للجسم، وهو ما لا يتوفر في كائن آخر، كالبطاطا أو الطماطم، على الرغم من أن البطاطا تملك 39 ألف جين، وهذا يعني أن عندها أربع نسخ متطابقة من كل كروموسوم، بينما يملك الإنسان في معظم خلاياه نسختين فقط.
كان اكتشاف الخارطة الجينية للبطاطا والطماطم العام الماضي حدثا علميا مهما بالنسبة لعلماء الهندسة الوراثية، فقد جاء بفضل التطور العلمي والتكنولوجي الراهن، وهو خطوة مهمة في طريق تحسين محاصيل السلع الأساسية وقيمتها الغذائية وصلاحيتها للتخزين. قبل ذلك كان كل ما نعرفه عن البطاطا جينياً هو أنها تحمل 48 كروموسوما، أي أكثر باثنين من الذي يحمله الإنسان في خلاياه. هذا الخبر وجدت صعوبة شديدة في تقبله، فقد كنت أنظر بالاستهانة للبطاطا دوما، وكثيراً ما أستخدمها لاستفزاز إخوتي عندما يتزايد وزن أحدهم وتنتفخ وجنتاه وتتضخم ملامحه الجسدية. هذا التهكم المتلبس بالمزاح لم أعد أمارسه مؤخراً لأسباب ‘خاصة جداً’، لا داعي لذكرها طبعا – والمفروض أنني مبتسم الآن. أعادني إلى صوابي قليلا اكتشافي أن عدد الكروموسومات لا يحدد مدى تعقيد الكائنات ولا رقيّها الخلقي والبيولوجي، لكنني في طريقي إلى ذلك اكتشفت أموراً أخرى أكثر مفاجأة وإذهالاً، مفادها الأهم هو أننا نصنّع أو نسوّق امتيازنا البشري، ونكون أسطورة خلاقة صنعها عقلنا ذو الخيال الجامح وإدراكنا وغرورنا، وليس للحقيقة العلمية أو مساحتنا في هذا الكون دور في تأصيل ذلك في الغالب.
عين الإنسان مثلاً، ترى أقل من 1′ مما هو موجود في حيز رؤيتها، وأذنه تسمع أقل من 1′ من الأصوات التي تحيط به. وفي الوقت الذي تقرأ هذه الجملة، فإنك تتحرك في حيز الفضاء الكوني بسرعة 220 كيلومترا في الساعة. اللافت أيضا أن90′ من خلايا الإنسان تحمل خريطتها الجينية الخاصة التي لا تمثل الصفات الوراثية لحاملها، كما أن 99.999999999999999999 ‘ من مساحة الذرات التي في أجسادنا خالية، هذا عدا عن أن أي ذرة في جسدنا ليست هي نفسها التي ولدنا بها. تقول أبحاث وكالة فضاء ناسا إن ذرات الإنسان تتحدر من بطن نجم في الفضاء وليس من الأرض. لكن من المحبط أن تعلم أيضا أن قوس قزح الذي تراه، غير موجود على أرض الواقع، فأنت لا ترى قوس قزح في السماء، بل تخلق وجوده بنظرك. محبط أيضا أن نعلم أن جمال الألوان الذي نتمكن من رؤيته يمثل 1’ فقط من المجال الإلكترومغناطيسي للطيف الكوني الذي نعيش فيه.
هذا كله يقودني إلى استنتاج مهم، وهو أننا وبعد كل هذه الحقائق الصادمة حول ضآلتنا، وفي ظل صيرورتنا المتفاخرة المغرورة القادرة على البناء والهدم بشكل خلاق، نملك ما يجعلنا نؤمن ونتيقن بأننا قادرون على فعل كل ما نفعله ونريد أن نفعله. هذا الاستنتاج يعني أن لدينا شيئا يخرجنا من حيز المحسوس والمنظور إلى ما هو أبعد من ذلك. نحن نخلق عالمنا الذي نراه، وليست أجسادنا التي تقوم بذلك، بل هو عقلنا العظيم الذي تمكن من صنع مجد الإنسان وتصويره بالطريقة التي ترضي غروره وتقنعه بأنه المرشح الوحيد للقيادة والزعامة على كوكب الأرض، بل أبعد منه. هذا العقل يكوّنه بشكل غير ملموس كل من الضمير أو الإدراك (أولاً) والتفكير والمنطق والاستيعاب والحكم (أخيراً). ويبدو من المنطقي أن ينشأ عن هذا الترتيب التسلسلي شيء من المعايرة والموافقة، أي أن الإنسان عاقل بالقدر الذي يحترم فيه هذا التراتب، وبقدر يقظة هذه العوامل يكون عاقلا أو مجنونا. لا أصدق أن أحداً من البشر يمكنه أن يحتقر هذا العقل ويجعله في غير سلم أولويات المعرفة والعلم. ومن المستفز للوهلة الأولى أن نسمع أن هناك جدلاً حدث في يوم من الأيام وفي مختلف الأديان حول موثوقية العقل وتقديم غيره عليه، وغير ذلك من الاجتهادات حول ‘ما ومن الذي يحكمنا ويحكم بيننا؟’، لكن استدراكنا أن بعض العقول تصنع منطقها الخاص البعيد كل البعد عما هو أخلاقي، يجعلنا نلتمس العذر لمن أيدوا هذا التوجه، لأن العقل لا يؤدي بنا بالضرورة إلى الكمال الأخلاقي والقيمي والمعرفي، بل يصنع الصورة التي تريد أرواحنا – طيبها وخبيثها- أن تراها في هذا العالم. من جانب آخر، قد يكون لكل ما يتصوره عقلنا، قصة آخرى تمثل الحقيقة والواقع الملموس لا يمكن أن نراها، وقد تكون تلك الحقيقة شيئا مما يوجد في 99’ من الطيف الكوني الذي نعجز عن تلمسه.
‘ كاتب واعلامي إماراتي
مقال فلسفي أكثر من رائع…الشكر موصول