اللاجئون: مصائب قوم عند قوم معايب

حجم الخط
3

يحدث في قاموس اللغة العربية أن تولد بعض المفردات خارج رحم المعتاد، فتأخذ مكانها الإعرابي كصفة ترتبط بالموصوف بحبل سرة لا أمل في فكه، ولا أمل للموصوف في الانعتاق من تهمة الصفة.. ويحدث أن ترفض تلك المفردات أي سياق حيادي، فلا تقبل الفرضيات في طرحها ولا المرادفات في وقعها على الأذن أو الورق.. إنها ببساطة مفردات قدرية، حتمية، حاسمة، لا تنتمي إلى يمين الاحتمالات ولا إلى يسار تخمينات التغيير.
وبين هذه المفردات القدرية، تظهر كلمة لاجئ، التي وشمت صاحبها برائحة الخيام مرة، وبتغريبته مرة وبخرافة المفتاح المعلق على رقبته مرات ومرات.. فعند العرب حصراً تصبح مصائب قوم عند قوم معايبُ، فاللاجئ في عرف الطروحات العربية هو المسكين، «المعتر» الذي عاش على هامش الهامش، فذاق المّر، وأكل الخبز اليابس، ونام على الأرض، لم ينعم يوماً بشراشف نظيفة ولم يدع أصحابه لإطفاء الشموع في عيد ميلاده، إنه من لم يتقن الحديث عن أصله وفصله، ولم يعش في أي طابق من طوابق النعيم ولا حتى في قبوه. اللاجئ في الأذهان العربية، هو المجبول بكلمة «يا حرام» والمفطوم على كلمة «الله يعينو» وصاحب الجسد الذي لا يحق له الشكوى من جنون شتاء العراء، ولا من ذباب صيفه.. إنه ببساطة، «اللامنتمي» الوحيد الذي أغفله ويلسون في كتابه، فلم يسقط سهواً، بل لم يأتِ أصلاً في ذاكرة الكاتب الشاب، فهو البطل الوحيد في سينما الواقع، الذي بقي اسمه من شلة الكومبارس رغم أن السيناريو والقصة والحوار والموسيقى التصويرية تدور عنه..
اللاجئ، هو الذي استيقظ بين ليلة وضحاها ليرى سقف البيت قماش خيمة، وباب البيت قطعة من القماش نفسه، لا مكان فيه لمفتاح، ولا رقعة فيها لنافذة، خيمة لا حرمة لها ولا عتبة، لا وسادة فيها ولا حلم، لا خصوصية فيها ولا صندوق بريد… هكذا: مسكن مشّرع على الفصول الأربعة وعابري الخيم وقاطعي الطريق، وإن فتح فمه ودافع عن حقه بما يملكه من قماش، سيؤاخذ على عتابه، وسيقال له بوقاحة ألا تعرف الخجل: ما تعيش فيه اسمه وطن بديل لا خيمة، فالخيام كما يراها أصحاب البيوت ونزلاء الأوطان، ترف، لولاه، لبقي اللاجئون في بلاد الله الواسعة، يشحذون السقف والحيطان.
اللاجئ هو من جر جسداً ضئيلا منهكاً وحمل كيسَ ورقٍ فيه من الضروري أهمه وراح يمشي في قافلة المهجّرين لا يملك الجواب لسؤال لا يعرف بالأصل كيف يطرح! إنه من عاش بين سماء ويابسة لا طالت يده من الاثنين إلا غبار السير ووجع القدر ولعنة الاسم.. إنه الوحيد الذي يخطط لحلمه قبل أن يتوجه إلى النوم، فأحلامه لا تشبه أحلام الآخرين، أحلامه مصاغة ومشكّلة ومرتبة ومجهزة لتدور أحداثها حول كلمة واحدة واعدة اسمها «العودة».
اللاجئ هو المكبل بلقب لن يفك عن اسمه وابن الخيام التي ستبقيه «لاجئا» حتى لو استبدل القماش بجدران والأرض بسرير ووسادة.. فالأحكام ستنهال مسبقاً على هذا المحكوم بلقبه كوابل من التعيّيّب.. فلا الدراسة ستنتشله من تاريخ اللقب، ولا نجاحاته ستعفيه من حمولة التسمية، لأنه باختصار، وكما أرادت الرواية أن تختصر قدره بلا استحياء: «لو بقي في بيته لما صار البيت خيمة، والوطن حلم عودة!».

كاتبة من سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هدى:

    مقالة معبرة ..شكرا للكاتبة و للقدس العربي

  2. يقول سامي صوفي:

    شكراً يا سهى. و لكن كل العرب عايشين لاجئين في بلدانهم.
    يصبح للعرب وطن فقط عندما يهاجرون الى بلدان خارج ما يُسمى الوطن العربي.

  3. يقول مصطفى حسن فرحات:

    ارفع القبعة للكتابة المميزة صاحبة الإحساس والوجدان على هذا المقال الرائع..اعدت قراءته مرات عدة لحسن التعبير به وجمال الصور ودقة متناهية في الوصف… مقال مؤثر جدا

إشترك في قائمتنا البريدية