اللاجدوى كقيمة جمالية

خارج أي تقييم مبيت، تأخذ النصوص الكبيرة شكل لآلئ، يتفرد كل ضلع منها بإشراقاته المتجددة، بموازاة تقليبها تحت ضوء قراءاتها العاشقة، المنتشية بترسيخ وتكريس مصادرها الفاعلة في تشكلها، بما هي مصادر تشكل القول المنذور لتحولاته المستقبلية في مسارات الكلام.
والحديث عن المصادر الخفية للنص، يعني من وجهة نظر مغايرة، أو بالأحرى غير محابية، ضبط المؤشرات التي تهتدي بها القراءة إلى هويته، التي يحدث أن تكون هوية مزيفة بالكامل، لأن جاذبية النص، لن تنفي بالضرورة إمكانية حضور شبح الشك، الذي يمتلك أكثر من بوابة يتسلل عبرها إلى عمق الملاذات، التي دأب فيها القول على تطوير آليات هيكلته لقلاع يقينه. وبالنظر إلى ما يتمتع به الشك من مواهب تخريبية، فإن هذه القلاع «النصية» تكون معرضة باستمرار لاحتمال التداعي.
وحرصا من القراءة على تلافي وقوع المحظور، الذي يمكن أن يأتي على الأخضر واليابس، خاصة حينما يتعلق الأمر بالنصوص ذات المرجعيات العقدية، فإن استحضار هاجس التخفيف المؤقت من حرقة السؤال، سيكون ضروريا من أجل طمأنة القراءة على إمكانية ترويضها لجبروت الشك ولو إلى حين، عساها تحتفظ بالقليل من مبررات وجودها. ثم في خضم التأرجح الحاد بين حالات التشكيك في المقروء، وحالات الطمأنينة الناتجة عن الاستئناس باحتمال صدقيته، ثمة أيضا التعلل بنشوة ممارسة حضور رمزي في مضايق المقام، قوامه الجهر بوجهة نظر قد تصب في تزكية النص، أو رفضه. علما بأن الاختيار الثاني، هو الذي سيضعنا مباشرة في صلب الموضوع الذي يعنينا أساسا في هذا السياق، والمتعلق بإشكالية اللاجدوى، من جهة تأثيرها بشكل أو بآخر في تنشيط ممارسة مضادة، ذات بعد تدميري، بما هي تفنيد لصلاحية ومصداقية الحضور، بمجموع ما يسعى إلى مراكمته من هبات، حيث ما من أفق يغري بانفتاح الكائن على أسئلة الضرورة وإكراهاتها، وما من غاية تستحثه على إذكاء جذوة حماسه تجاه أي هاجس عملي محتمل. علما بأن اشتغال هذه الآلية، يختلف جذريا عن اشتغال آلية الشك، القرائي بالنظر لميلها إلى إجهاض كل المقولات، والمنظومات الدائرة في فلكه، كما في فلك مقابله الموضوعي «اليقين». باعتبار أن الشك يستمد دلالته هو أيضا، من بحثه الدؤوب عن المسالك الأكثر فعالية، والمعبدة بما فيه الكفاية، للوصول إلى مستقر آمن يطمئن إليه. في حين تتميز مسارات اللاجدوى، بتجردها التام من أي مكتسب، قد يستند إليه الكائن في تحقيق حلم حضوره داخل أي مشهد كان. كما تتميز باختلافها التام عن وجهات مسارات الشك، المفضية بطريقتها الخاصة إلى وجهات اليقين، التي يجد فيها الكائن سعادته القصوى، باعتبارها مصدر تصالحه مع ذاته، ومع محيطه. في حين، تتميز اللاجدوى بتنكرها لأي مصالحة ممكنة، سواء مع الذات أو مع غيرها، بل علاوة على ذلك، يستهدف المسالك المؤدية إلى المصالحة بالإتلاف والتخريب، ما يضعنا مباشرة في قلب معادلة ذات طرفين متضادين، يتمثل أولهما في توحد الشك واليقين داخل دفء خانتهما المشتركة، بينما يتمثل الطرف الثاني في نزعة اللاجدوى المنذورة إلى طمس كل أثر يحاول أن يفضي إلى ملاذ ما، حيث يمكن القول، إن الطرف الأول، يحيل على ذات تعتبر نفسها مركز الكون، الذي من أجله فقط، استحدثت كل هذه الأشكال الواضحة والغامضة، في آن بكل تلويناتها التي تتقاذفها الأزمنة والأمكنة، مقابل الطرف الثاني المحيل على كون، لا يرى في تلك الذات سوى وسيط مؤقت، وعابر، تتلخص وظيفته في مراكمة المزيد من التصورات النظرية، حول هويته السعيدة بتعاليها، وبتقليب نظرها في ما تنسجه الذوات البشرية حولها من أفكار وتأملات، ومن توهمات وحقائق.

في خضم التأرجح الحاد بين حالات التشكيك في المقروء، وحالات الطمأنينة الناتجة عن الاستئناس باحتمال صدقيته، ثمة أيضا التعلل بنشوة ممارسة حضور رمزي في مضايق المقام، قوامه الجهر بوجهة نظر قد تصب في تزكية النص، أو رفضه.

وخلافا لكل التأويلات الجمالية والفلسفية، التي طالما أسقطتها العقلانية الأصولية على اللاجدوى، فإنه سيظل التعبير الصريح عن الممانعة المتطرفة التي تبديها الذات، تجاه كل إلزام يتعامل معها بوصفها مجرد مرآة عابرة ومؤقتة، يتأمل فيها الكون ذاته قبل أن يعمد إلى تهشيمها في نهاية المطاف. وهذا التأويل يجعلنا نتحفظ من أي تصنيف أو توصيف قدحي، يؤدي إلى إدراجه ضمن الممارسات الطائشة، المفتقرة إلى الحد الأدنى من العقلانية. كما أنه يغرينا بالتعامل معه بوصفه رؤية مختلفة، ومغايرة للذات وللعالم، التي تقتضي مقاربتها توظيف إواليات معرفية، تتميز هي أيضا بمغايرتها واختلافها. كما أن التأويل ذاته يفيد ضمنيا، أن الوظيفة الأصلية الملقاة على كاهل أي فعالية فكرية، تتمثل في خدمة ذلك الكيان المتعالي. المستقل تماما عن مكابداتها الشخصية. هنا تحديدا تصبح الكائنات ككل، مجرد قطع غيار مزروعة في قلب آلة كبيرة، تلزمها بإنجاز مهام محدودة في المكان وفي الزمان، بانتظار الاستغناء عن خدماتها، حالما يطالها عطب جزئي أو كلي، يحول بينها وبين أمل الاستمرار في أداء مهامها، حيث تكون مجبرة على إخلاء المشهد، من كل أثر دال على وهم الحضور.
وتتميز شروط إخلاء المشهد بمستوياتها المتعددة، المتدرجة من حيث القوة والضعف، بتواز مع تدرج مستويات لعنة استغناء المتعالي عن خدمات الكائن، مراوحة في ذلك بين الإخلاء الإرادي أو الطبيعي، والإخلاء القسري، على غرار ما يحدث في الإبادات الجماعية، ومحارق التطهير العرقي. ومع ذلك، فإن القطع البشرية هذه، المزروعة في قلب آلة الكون العظمى، تظل محتفظة باستمرارية عنادها في أداء مهامها ووظائفها، من منطلق اقتناعها بسلطة تموضعها الرمزي في مركز الوجود، ومن منطلق رفضها القاطع لمنطق الاكتفاء بالأدوار الهامشية المنوطة بها، من قبل سلطة كلية ما، حيث يمكن قراءة أهم الصراعات الفكرية والعقدية التي عاشتها وتعيشها البشرية، على ضوء هذا العناد المناهض لأوامر التنحي، والصارخ بحدة، في وجه الدعوة للإخلاء، بدون أن يلغي ذلك، إمكانية الاحتماء بنوع من التوفيقية، أو التخفي في أقبية النسيان، كاختيار اضطراري أخير، للانفلات من ضراوة حيرة لا يخمد أوارها شك أو يقين.
أحيانا، تمل الذات من محورة الأسئلة حولها، فتجنح للانفتاح على الآخر، بصيغة ما يتواضع عليه بالتواصل أو التفاعل مع المحيط، كشرط أساسي من شروط الوجود، كما أنها، ومن فرط حرصها على الانتقام من الآلة الكبرى، التي لا ترى فيها سوى قطعة غيار، تميل إلى الانغلاق التام والمطلق على ذاتها. وبالتالي، فإن فكرة الموروث الحضاري، توشك تبعا لذلك، أن تقنعنا بأنها ليست في نهاية المطاف، سوى خلاصة هذا التشظي، الذي تعيش الذات بموجبه، تأرجحها الأبدي بين الانتصار إلى وجودها، والتنكر لكل ما له صلة بالوجود، سواء كان مجسدا في الآخر، أو في آلة مقدسة كبرى تحمل اسمه.
بالطبع، لا أحد منكم سيتوقع أننا بصدد الانتصار على سلطة الذات، أو سلطة الوجود، لأن الأمر ما يزال إلى حد الآن في بداياته، حيث سنحتاج إلى عشرات القرون، وإلى آلاف الأجيال المفكرة والمبدعة، كي نهتدي إلى ذلك الخيط الرهيف، الفاصل بين الظلمتين. حسبنا هنا أننا حاولنا ولو بطريقة جد ملتوية، رد الاعتبار إلى جمالية اللاجدوى، وإلى تواطؤ كل من الشك واليقين، في إضاءة عقولنا وأرواحنا بأنوار تلك اللآلئ الغامضة، التي تتقمصها النصوص الأساسية في بحثها الدؤوب عن دلالات، وجدوى حضورنا أو غيابنا.

شاعر وكاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية