اللاعبان أبو تمام وبشارة الخوري: لعبة التثنية

ثمة في كل أطوار الشعر ما ينضوي إلى الخصائص العامة أو المشتركة بين الشعراء، وثمة ما هو خاص بهذا الشاعر أو ذاك؛ وقد يكثر دورانه في القصيدة، وقد يقل. وكل عصر أدبي هو نظام عام، ولكن كل شكل مختلف أو سمة فردية جزء من هذا النظام أو النسق كلما كان بميسوره أن يستوعب المختلف.
من ذلك مثلا أن استخدام الرموز قديم جدا في الشعر، بل لعله الأصل فيه، من حيث هو فن استعاري كنائي، ولكن شتان بين التعبير الكنائي والرمز، وما ينهض به التعبير الرامز في نسج ضفائر من علاقات المجاورة أو المشابهة بيننا وبين الأشياء والأحداث، وبين الرمز والرمزية من حيث هي مدرسة ترجع نشأتها إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أو رمزية السيرياليين، أو بين الرمز والدلالة الإيحائية أو المعنى الحاف. وهذا وغيره يقتضي بسطة في القول ليس هنا مجالها.
على أنني أحب في السياق الذي أنا فيه، أن أقتصر على بعض السمات الفردية في شعرنا القديم والحديث؛ في علاقتها باللعب الشعري أو اللغوي مثل، صيغة التثنية التي أفصل فيها القول لاحقا، والمفعول المطلق، وقد بدأ يضمحل في استعمالات المعاصرين، إن لم يكن قد اضمحل. وأكثر ما يرد مقيدا بالإضافة في صورة تشبيه بليغ. وقد يرد مفردا بلا قيد، أو مقيدا بالوصف أو الحال أو الظرف أو بغير ذلك.
وما يعنينا هنا أن المفعول المطلق يعبر عن الحدثية المحض، وقد سماه النحاة « الحدث» و»المصدر» لقيامه على اسم الحدث. وهو عند عبد القاهر المصدر الذي يخرج المعنى من العدم إلى الوجود، وعند ابن برهان « النقرة من الفضة»، ومنه تشتق الصور الفرعية مثل الفعل واسم الفاعل واسم المفعول واسم الزمان واسم المكان، والصيغ التي لا تتصل بمعنى المادة الأصلية المتصرفة إلا من قبيل «الآلات المصوغة من الفضة». فلعل إطلاقه أو دلالته غير المقيدة، وشبكة المعاني المبهمة المتصلة بنوعه الاسمي، وحرية موقعه في فضاء المفعولية، ودلالته على جميع الأحداث والأزمنة المبهمة بعبارة النحاة، والتماثل الصوتي بينه وبين الصور والصيغ المشتقة منه ؛ ما يوائم لعب الشعراء في تشقيق الكَلِم أي الخطاب. وقد يسوغ أيضا أن نرد مثل هذا إلى الضرورة، ولكن شريطة أن نتفق على أن الضرورة هي ما يقع في الشعر، مما لا يقع في النثر، سواء أكان للشاعر عنه مندوحة أم لا بعبارتهم. ولنا أن نلحق الظاهرة بلغة من لغات العرب أو لهجاتهم، أو بضرورات الشعر أو بالاثنتين معا. ونحن إلى إلحاقها بالثانية أميل أي بالضرورة على النحو الذي أسلفنا، ونعني الاختيار الذي يفضله الشاعر من بين الممكنات اللغوية أو الشعرية أو الضرورة التي لا تُعزى إلى إقامة الوزن أو إلى ضعف التصرف؛ وإنما إلى غرض لابد من بلوغه، وما لذلك من أثر في بنية الاستعارة: الصرفية والنحوية، بما يعزز الصورة التجسيدية، وينزل المجردة منزلة المحسوس.
ومن هذه السمات الفردية الصورة القائمة على «الضديد» أو الأوكسيمور(وأنا أفضل ترجمته بمصطلح حازم القرطاجني: الاختلاق الامتناعي) على نحو ما نجد عند أبي تمام في مزاوجاته النعتية الضدية اللطيفة («أمل خراب، ظن ممرع، أمل جدب…) وما إلى ذلك من ظواهر وسمات في إنشائية الخطاب الشعري قلما التفت إليها الدارسون لما استقر عندهم من أنها استثناء؛ في حين أن اطرادها يدحض الزعم القائل إن الشعراء لم يتعمدوها ولم يقصدوا إيرادها، أو هم يكثرون من استعمالها بدون أن يشعروا؛ أو قد تكون الضرورة الشعرية هي التي تلجئهم إليها. وهذا تعليل ليس بالذي نطمئن إليه دائما، خاصة أن بعضهم يسوقه في غاية الاختصار والتسرع إلى الأخذ بناصية الضرائر وإكراهات الوزن. على حين أن الاقتصار على اعتبار الوزن أساسا وحيدا في دراسة الضرورة، بسبب العلاقة الوثيقة بين التجربة اللغوية في البيت ومعيارية بنائه العروضي، لا يستوفي مثل هذه الظاهرة حقها. ومثلما يتعذر الفصل بين اللغة والوزن في وحدة البيت، يتعذر كذلك بين هذين والإيقاع الذي ينتظمهما.

يمكن القول إن التثنية وهي الجمع في هذه القصيدة وفي قصائد أخرى، تتحقق باستعمال الصيغ الإسمية واشتقاقها وتغييرها في محل النصب والجر خاصة، حيث اللاحقة ياء ونون.

وأقتصر هنا على قصيدتين من شعرنا القديم والحديث، لأبي تمام وبشارة الخوري (الأخطل الصغير)، تدور في كل بيت فيهما صيغة المثنى، في خطين متوازيين: نحوي أفقي، وصرفي رأسي. وهذا لعب لا شك، قد يراه البعض شكليا صرفا، ونرى فيه طريقة الشاعر في صنع كونه الخاص، أو رسمه الشعري المصمم؛ أو سبره ما وراء المنطق الظاهر. والتثنية ظاهرة أساسية في العربية؛ حتى أن ابن جني وضع فيها كتابا خاصا: «علل التثنية». ولا يخفى أن مخاطبة الواحد بخطاب الاثنين أو الجماعة من باب الترخص في الشعر، فضلا عن أنه أسلوب قرآني، كان فيه للنحاة وعلماء الإعجاز تخريجات لطيفة. يقول أبو تمام:
خشنت عليه أخت بني خشيْن / وأنجحَ فيك قولُ العاذليْنِ
فقد جاءت التثنية مجتمعة، واستغرقت تسعة عشر بيتا من سبعة وثلاثين. وأشار محمود الربداوي إلى أن بعضها سائغ، وبعضها لا داعي له إلا إقامة الوزن. وهذا ما ذهب إليه التبريزي قبله؛ إلا أنه نبه إلى ناحية في التثنية والجمع لم ينتبه إليها الربداوي. قال معقبا على البيت الرابع عشر: «وثنى أبوتمام « الخيف» وهو ما ارتفع من المسيل وانحدر عن الجبل؛ لأنه أراد إقامة الوزن. وذلك جائز على معنى الاتساع، وإنما يجىء في الشعر القديم « الخيف من منى» على التوحيد؛ إلا أن التثنية والجمع في مثل هذه الأشياء جائز»، وساق أمثلة تؤكد ذلك، كقولهم «عرفة» و»عرفات»، و»أبطُح مكة « و»أبطحَاهَا». وقال في السياق نفسه، معقبا على قوله «فالموقفين»: «أراد الموقف بعرفة والموقف بالمزدلفة أو موقف إبراهيم، أو نحو ذلك من المواضع؛ ولم لم يكن ثم إلا موقف واحد لجاز أن يثنى ويجمع بما حوله أو قرب منه»، وعلى هذا يمكن تخريج «سيف خليفتين» في البيت التاسع، وقد استعصى على محمود الربداوي؛ فالمقصود بالمثنى، الجمع «خلفاء»، أي السيف الذي كانوا يتوارثونه كما كانوا يتوارثون بردة النبي. وليس هذا بتعسف منا، فسيبويه يرى «أن التثنية جمع». ومثال ذلك أيضا قوله «محمدين» في البيت السابع عشر؛ فقد خرجها أبو علي المرزوقي تخريجا لطيفا. والمعنى أنه لولا أثر سيف الممدوح، لاتخذ هؤلاء القوم رؤساءهم بمنزلة الأنبياء تعظيما. فكانوا يجعلون لإبراهيم خليل الله نظيرا فيهم، ولمحمد نبي الله شبيها عندهم؛ فيحصل للملة خليلان ومحمدان. ويجوز أن يكون معناه، ولعــــله الأجــــود أنه لولا ســـيف الممدوح لجعلوا الدين دينين والملة ملتين، وإذا فعلوا ذلك فقد جعلوا محمدا محمدين. ونقف في قصيدة بشارة الخوري على الظاهرة نفسها (التثنية):
أتتْ هندُ تشكو إلى أمها / فسبحانَ من جمع النيرينْ
فقالت لها إن هذا الضحى/ أتاني وقبلني قبلتـــــــــــينْ
وفر فلما رآني الدجــــى / حبانيَ من شَعره خصلتينْ
وما خافَ يا أم بل ضمني/ وألقى على مبسمي نجمتينْ
وذوب من لونه سائلا / وكحلني منه في المقلتينْ
فنادانيَ الروض يا روضتي/ وهم ليفـــــــــعلَ كالأولينْ
فخباتُ وجهي ولكنه / إلى الصدر يا أم مد اليدينْ
ويا دهشتي حين فتحتُ عيني / وشاهدتُ في الصدر رمانتينْ

يمكن القول إن التثنية وهي الجمع في هذه القصيدة وفي قصائد أخرى، تتحقق باستعمال الصيغ الإسمية واشتقاقها وتغييرها في محل النصب والجر خاصة، حيث اللاحقة ياء ونون. وأما اللاحقة في الاسم النكرة أو غير المضاف، أي الفتحة الطويلة والنون، فقلما تقع في هذا الشعر؛ بل نحن لم نجدها في أي من هذه القصائد النونية، إلا في بيت أو اثنين. ولم نقف على سبب وجيه لذلك؛ إلا أن يكون الأمر راجعا إلى الإنشاد، فلعله أكثر سلاسة مع حركة الجر الذي يدل على الانقياد والإلحاق والإضافة، بخلاف الرفع الذي يفيد الـتأثير أو الإسناد.
وما يستوقفنا في هذا اللعب اللغوي الرياضي الاختزالي الإيقاعي الخاص بالعربية، أنه يتصل بعدد من الخصائص والتغيرات الجارية في فضاء الإسمية، حيث التثنية سمة اسمية محض، وهذا مما عزز رأينا في أن شعرية القصيدة من شعرية اللغة مشتقة من هذه البنية التأليفية بنية الاسم المثنى، أو من هذا النظام الجزئي الصغير من أنظمة الوسم والتخصيص في العربية. ولعل خير ما أختتم به، ونحن نستمتع بهذا اللعب اللغوي الجاد، حيث في تعانق الاثنين مصالحة الأضداد كلها؛ قول الأم لابنتها في قصيدة بشارة الخوري :
عرفتُهمُ واحدا واحدا / وذقتُ الذي ذقتهِ مرتينْ

٭ كاتب من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    مقال رائع.لكن أيّة تثنية يادكتور؟ جعلتها مثنى وثلاث ورباع على هند وأمها ذات الذوق الملتاع.ولقد أعدت ( أم هند ) كما عاد الشيخ إلى صباه…وكما توّحد الطائيّ في شعرالخوريّ ؛ فكان صداه.متألق دائمًا ياأبا زينب ؛ مودتي.

  2. يقول منصف الوهايبي:

    شكرا صديقي الدكتور جمال على إطلالتك الرائقة.

  3. يقول مائة أهلين و سهلين:

    اللافت هو أن بلاد الشام تجمع بين الشاعرين و أهل بلاد الشام مغرمون بصيغة المثنى . مع أنني أضيع في مصطلحات النحو و الصرف إلا أنني دائما أستمتع بمقالات الكاتب القدير.

إشترك في قائمتنا البريدية