«اللاموثوقية» من منظور الصيني بيو شانغ

شهدت الآونة الأخيرة تزايدا ملحوظا في الاهتمام بتقديم الأفكار وتطوير أساليب البحث في السرد ما بعد الكلاسيكي وعلومه المتفرعة، كعلم السرد النسوي وعلم السرد المعرفي وعلم السرد التواصلي، وعلم السرد ما بعد الكولونيالي وعلم السرد التاريخي الجديد وعلم السرد الجسدي، وعلم السرد الرقمي وعلم السرد الخطابي، وعلم السرد الثقافي التاريخي وعلم السرد غير الطبيعي، الذي كان للنقاد الصينيين دور واضح في تطويره حتى صارت لهم اليوم مكانة لا يمكن إنكارها على خريطة النقد العالمي المعاصر.
من هؤلاء النقاد، الصينيان بيو شانغ Biwu Shang ودان شين Dan Shen اللذان ساهما مع منظري هذا السرد في وضع أبحاث مهمة في هذا المجال، ومن ذلك دراسة شانغ المعنونة (التكامل في علوم السرد ما بعد الكلاسيكي) 2011 وفيه طرح فكرة التكامل ما بعد الكلاسيكي من بعدين: الأول تعددية وسائط السرد الأدبي، والثاني تنوع المناهج. ومعهما لا يعود الحديث عن السرد بوصفه نظاما عاما أو نهجا موحدا كافيا، بل السرد متنوع في ما بعديته كمستويات ومعايير مختلفة التصنيف والنمذجة. وليس في هذه التعددية ضير لأن المقاربات والتحليلات تحتاج إلى أكثر من تخصص واحد وفي أكثر من حقل من حقول الدراسات النقدية، بما في ذلك المقاربة بين علم السرد الكلاسيكي وعلم السرد ما بعد الكلاسيكي من ناحية، وفروع هذا العلم من ناحية أخرى، وبما يحقق التكامل في المناهج والرؤى، ويردم النواقص التي يمكن أن يقع فيها أي علم سردي فتتعزز ما بعدية علم السرد وتصبح أكثر قوة من الناحية النظرية.
ولأن بعض المشتغلين بهذه العلوم لا يولون اهتماما واضحا بأمر المقاربة والتكامل، قدّم بيو شانغ بعض التصورات التي تصب في هذا المجال، وناقش قضية محددة ومتنازعا عليها كثيرا هي «اللاموثوقية في السرد»
وعلى الرغم من أهمية مفهوم اللاموثوقية في الدراسات النقدية، فإنه ما زال يثير إشكالات والتباسات عند علماء السرد، لاسيما في ما يتعلق بالمؤلف الفعلي والضمني. وصحيح أن واين بوث طرح عام 1961 في كتابه (بلاغة الفن القصصي) مفهوم (السارد غير الموثوق به) بيد أن هذا المفهوم ومنذ أكثر من عقدين صار مهما ومدار اختلاف منظري السرد ما بعد الكلاسيكي.
أما الخروج من هذه الالتباسات في دراسة اللاموثوقية فوجده بيو شانغ يتمثل في الجمع بين نهجين رئيسين ومتباينين، جمعا يردم نقاط الضعف في كل منهما فأما النهج الأول فبلاغي ويمثله واين بوث وجيمس فيلان، وأما النهج الثاني فمعرفي وهو حديث وطورته تامرا يعقوب. ووقف شانغ إلى صف النهج المعرفي أكثر من النهج البلاغي، لأنه يعطي أهمية للقراء ولا يُعنى كثيرا بمسألة المسافة بين السارد والمؤلف الضمني، على فرضية أن القراءة عقد تواصلي بين المؤلف والقارئ، وبها يمكن حل إشكاليات الخطاب النصية الداخلية، اعتمادا على إدراك القارئ لما يقرأه ومدى ثقته بالمؤلف. والسارد ليس فجوة بين المؤلف والقارئ، بل هو وسيط اتصالي بينه وبين المؤلف الضمني، وبينهما وبين المؤلف الحقيقي والقارئ.
وحسب بوث؛ فإن اللاموثوقية تتأتى من المسافة التي بها ينحرف السارد عن أعراف المؤلف الضمني كأقوال وأفعال فينفرط عقد التواصل الخفي بينهما، ما يؤثر في درجة اقتناع القارئ بما في القصة أو الرواية من أحداث وشخصيات. وكأن هناك تواطؤا بين المؤلف والقارئ الفعليين في السخرية من المؤلف والسارد الضمنيين، التي تحصل على مستويين: 1) الإبلاغ الخاطئ عن الأحداث 2) إساءة النظر أو اللااكتراث بالجانب الأخلاقي، أو القيمي، لكن جميس فيلان طوّر مستوى ثالثا هو إساءة القراءة أو قلة الإدراك المعرفي الذي يساعد في تقليص مسافة اللاموثوقية بين السارد والمؤلف والقارئ من خلال جعل اللاموثوقية تبدو مجازية بين المؤلف والسارد أو ساخرة أو تعجبية أو استنكارية.
ووقف شانغ مليا عند منظور بوث، وأخذ عليه أنه في تمييزه بين أنواع مختلفة من الساردين غير الموثوق بهم، لم يستقر على مفهوم محدد فتارة يستعمل «غير الموثوق به» وتارة أخرى يستعمل «غير الجدير بالثقة» أو «غير اللاواعي» أو «غير المعصوم». وهو ما ينطوي على إشكالية فهم دور السارد في الانحراف عن معايير السرد التي هي نفسها معايير المؤلف الضمني، ما يجعله غير موثوق به كسارد ينبغي أن يملك القدرة على تسيير العالم السردي.
ومن خلال مقارنة شانغ بين أساليب بوث البلاغية مع السارد غير الموثوق به وتطوير جميس فيلان لهذه الأساليب، توصل إلى نتيجة مفادها أن كلاً منهما أي (بوث وفيلان) يعدان اللاموثوقية في السرد عنصرا داخليا فلا يأخذان القارئ بنظر الاعتبار من ناحية الإدراك واستراتيجيات التفسير على وجه الخصوص.
وهذا يعني أن اللاموثوقية ليست ثغرة في عمل السارد، بقدر ما هي استراتيجية قرائية تستنهض القارئ كي يقوم بدوره في تفسير بعض العلامات النصية المحددة، التي فيها إشارات إلى عدم الموثوقية من قبيل تناقضات السارد في أقواله وأفعاله، أو اختلاف وصف الشخصية لنفسها وأوصاف الشخصيات الأخرى لها أو تصادي تعليقات السارد حول شخصياته، أو تضارب تفسيراته للأحداث ما بين القصة والخطاب.
ويخلص شانغ من تتبعه للاموثوقية إلى أن (التعددية هي الطريق إلى تحقيق التكامل في المقاربة بين البلاغة والمعرفية في دراسة اللاموثوقية). والتعددية أيضا ضرورية لتحقيق التكامل
بين النهج البلاغي والنهج المعرفي داخل النص وخارجه، فأما من الناحية الداخلية فإن التكامل بين عناصر البناء السردي سيحقق الاتساق النصي، أما من الناحية الخارجية فإنه يمنح القراء آليات تفسيرية تؤدي إلى قراءات متباينة للاموثوقية. وليس التكامل بين النهجين أمرا هيكليا أو دلاليا، بل هو ظاهرة تتضمن الأطر المفاهيمية التي بها يصبح السارد موثوقا به على أساس أنه يصنع توازنا في استجابة القارئ للسرد ويعطي لوجهة نظر المؤلف مصداقية نصية.
ونرى أن الأمر في الأساس متوقف على الدور الوظيفي الذي يلعبه القارئ والمؤلف في الإنتاج السردي وفي الطبيعة الديناميكية للتفسير السردي ضمن سياق اجتماعي وثقافي معين. وهو ما يسعى نقاد السرد ما بعد الكلاسيكي إلى الاهتمام به، سواء من الناحية النظرية، أو من الناحية الإجرائية التحليلية، معتمدين على نقاط القوة في تعويض، أو إزالة نقاط الضعف داخل السرد وصولا إلى صيغة تساعد في تطوير علم السرد ما بعد الكلاسيكي والتناغم مع تعدديته.
وهو أمر كان ديفيد هيرمان قد نص عليه في كتابه (مقدمة إلى علم السرد: وجهات نظر جديدة حول التحليل السردي) 1999، وقال: (إن دراسة علم السرد ما بعد الكلاسيكي تتطلب الجمع بين فروعه وتخصصاته الكثيرة بشكل يجعلها تكمل بعضها بعضا.. وأن علم السرد ما بعد الكلاسيكي ليس مجرد مشروع عملاق لا يتطلب مساهمات السرد الكلاسيكي، بل هو في علومه الفرعية المتنوعة يتطلب ذلك وبعدد كبير من المناهج ووجهات النظر.. وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إن المناهج ووجهات النظر التي تشتمل عليها علوم السرد ما بعد الكلاسيكي، لا غنى لها عن بعضها، في ما يتعلق بتطورها المستقبلي. أقترح اتخاذ موقف ما بعد نظري، لجعل التعددية هي الطريق الصحيح للتطور المستقبلي لعلم السرد ما بعد الكلاسيكي).
إن ما تضمنته مقالة بيو شانغ من مناقشة جدية لموضوع (اللاموثوقية) قد أكدت عدم قطعية النظر إلى السرد ـ كتابة وقراءة ـ في ظل عصر سائل يمور بالتعدد والتنوع، وما من سبيل للتماشي مع هذا كله سوى بالتكامل النظري والإجرائي وهو ما جسده شانغ فعليا في كتابه (السرد غير الطبيعي العابر للحدود: Unnatural narrative across borders 2019 الذي فيه أضاف إلى علم السرد غير الطبيعي إضافات نظرية مهمة عززت مقولتي التعدد في النظريات والتنوع في التخصصات والتكامل في المنهجيات.
وهو أمر يتفق عليه علماء السرد ما بعد الكلاسيكي ومن ثم لا تقاطع بينهم وبين علماء السرد الكلاسيكي في الوصول إلى فهم شامل لمستويات بناء النص السردي وقراءته. لكن القول بتعدد التخصصات في النقد الأدبي لا يعني مطلقا إلغاء التخصصية، فهي تبقى مهمة أيضا غير أنها مع غيرها من التخصصات تستطيع تلافي نواقص التخصص ومتروكاته، وهكذا لا تتضارب علوم السرد ما بعد الكلاسيكي لاختلاف مجالاتها التخصصية وإنما هي تعدد في تخصصاتها وتتوحد في تعدديتها.
وتخلص دراسة شانغ إلى أن علماء الاجتماع يؤكدون أهمية «التعددية» وأنها أفضل من الأحادية أو النسبية، كموقف نظري يعزز ثلاث فضائل في أي مجتمع بشري هي: الحيوية والعدالة والفهم، وهذا هو الحال نفسه مع النقد الأدبي الذي يحتاج إعلاء لموقفه من التعددية، لاسيما في دراسة النصوص السردية بحثا عن جمالياتها البلاغية وقضاياها الأدبية الأخرى. وبهذا تسير النظرية الأدبية جنبا إلى جنب النظرية النقدية، وقد طوّرت إحداهما الأخرى في شكل مقاربات شكلية وموضوعية، أو نظريات وتوجهات علمية.

باحثة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية