هل العلمانية مفهوم علمانيّ تماماً؟ علامة الإستفهام في آخر هذا السؤال ليست على قدر التوتّر الداخلي الذي يختزنه. فالمنازعة في تاريخ الفكر الغربي الحديث ليس بالمتسع حسمها، بين فئة ترى، على اختلاف أقطابها، أنّ للحداثة لاهوتها السياسي ولو اختلف عن اللاهوت السياسي لما قبلها، وبين فئة مضادة، ترى على تنوعها البالغ هي أيضاً، أنّ مشروعية الأزمنة الحديثة منها وفيها، وأنّ الحداثة لا تنسخ لاهوتا سياسيّا بآخر، بل هي تتطور كحداثة تبعاً لانقطاعها عن اللاهوت السياسي بحد ذاته.
الإتجاه الأوّل نجده عنك كارل لوفيت أو إريك فوغلين أو جاكوب تاوبس أو الكاردينال هنري دو لوباك، ويبقى عمدته الفقيه الدستوري الألماني المحافظ (والملتحق بالركب النازي مطلع الثلاثينيات) كارل شميت، الذي ذهب في كتابه «اللاهوت السياسي» (1922) إلى أنّ «كل المفاهيم المختصرة لنظرية الدولة الحديثة هي مفاهيم لاهوتية مُعلمَنة».
وجهة العلمنة لهذه المفاهيم اللاهوتية في مقصد شميت أنّها انتزعت من حيّزها الأصلي الذي يوصّف السيادة الإلهية وما للكنيسة، لإسباغها على المفاهيم الحديثة للسيادة وعلى الدولة. حتى إذا حصل لشميت أن سأل نفسه ما هو المقابل العلماني الحديث لمقام المعجزة في مبحثها اللاهوتيّ، أجاب بأنّ ما يناظرها هو تعليق صاحب السيادة للقانون نفسه، وإعلان حال الإستثناء. ليس صاحب السيادة من ينفّذ القانون بل من بمستطاعه تعليق حكم القانون عندما يرى ذلك ضرورياً. تطبيقياً، دفع التقيّد الحرفيّ بهذا الكلام شميت إلى وضع اختلافه الأيديولوجي، ككاثوليكي محافظ، مع النازيين جانباً، وتأييدهم، بل مناصرة أدولف هتلر، في لحظة دموية نافرة. ذلك عندما تطوّع شميت، بعد «ليلة السكاكين الطويلة» (أواخر يونيو 1934) التي قامت فيها وحدات «سرب الحماية» (إس.إس) بتصفية قيادات «كتيبة العاصفة» (إس.أ) – وفي وقت كانت ألمانيا، بما فيها قواعد الحزب النازي، مصدومة مما حصل بين قادة الحزب – إلى تدبيج مرافعة لئيمة تحت عنوان «الفوهرر يحمي القانون». والحال هذه، إيثار كارل شميت تطبيق ما فهمه من مقولاته هو على هذا النحو الفظ والشنيع لم يظهر كافياً لتبديد الحاجة إلى النبش في هذه المقولات، وحتى، وبالأخص، من مشارب أيديولوجية هي على النقيض منه، كمثل بروز ما اصطلح على تسميته بـ«الشميتية اليسارية» التي يذكر من أعلامها الفيلسوف الإيطالي المعاصر جيورجيو أغامبين.
لا يمكن في أي وقت إغفال «التطبيق» الخطير الذي قام به شميت نفسه لأفكاره، لكن شميت قدّم إسهاماً بارزاً على طريق إبراز أنّ منطق الدولة الحديثة لا يمكن فهمه بالإنقطاع عن مقدّماته اللاهوتية التي يجنح هذا المنطق نفسه إلى إخفائها، وأنّ هذه الدولة الحديثة انتزعت مقولاتها من اللاهوت المسيحي نفسه، وعلى تربته، إنما من بعد إزاحته عن بقعة الضوء، من أجل «علمنة» تلك المقولات المنتزعة، أي بجعلها تكفي أودها، مديرة الظهر لمقدماتها، وأنّه في اللحظات التي تجد فيها منظومة الدولة نفسها مضطرة للخروج من دوامة التداول إلى استحقاق اتخاذ القرارات المفصلية، حينها، عند إتخاذ القرارات، ستظهر أكثر طبيعتها، كدولة مستندة إلى «مفاهيم لاهوتية مُعَلمَنة». في نقده لمقولة «دولة القانون» وضعنا شميت أمام معادلة «جهنمية»: كلما كانت القرارات المتوجب إتخاذها مفصلية أكثر، ومن أجل إتاحة المجال للقدرة على التقرير هنا، ينبغي توفير مساحة لهذا التقرير لا توفّرها القوانين المرعية الإجراء.
لا يختزل منظار كارل شميت كل التيارات الشاخصة في «اللاهوت السياسيّ للحداثة» لكنه يتميّز ضمنها بسبره الماهية «اللاهوتية المُعلمنة» للدولة الحديثة نفسها. في المقابل، لا تمثل الدولة مشكلية قائمة بذاتها عند الفيلسوف الألماني هانس بلومينبيرغ أبرز من تولى المنافحة عن «مشروعية الأزمنة الحديثة» وألف كتابه المرجعي تحت هذا العنوان بالتحديد (1966). ليست الحداثة عند بلومينبيرغ على صورة المسيحية ومثالها، وإنما هي للأبيقورية أقرب. لئن كان هناك بالفعل رموز استعادتها الحداثة من التركة اليهومسيحية ووظفتها لأغراض وبمضامين مختلفة، فإن المتن الأساسي للحداثة تشكّل وفقاً لسرديات وأساطير واستعارات من العبث التفتيش على جذورها في التركة اليهومسيحية نفسها.
المنازعة في تاريخ الفكر الغربي الحديث ليس بالمتسع حسمها، بين فئة ترى، على اختلاف أقطابها، أنّ للحداثة لاهوتها السياسي ولو اختلف عن اللاهوت السياسي لما قبلها، وبين فئة مضادة، ترى على تنوعها البالغ هي أيضاً، أنّ مشروعية الأزمنة الحديثة منها وفيها، وأنّ الحداثة لا تنسخ لاهوتا سياسيّا بآخر
وفرادة بلومينبيرغ، أنه حتى وهو يسوّغ استقلالية الحداثة عن التراث اليهومسيحي (الذي يتنسب اليه ايمانياً في نفس الوقت) فإنّه يتقصى الأساطير التي بنتها الأزمنة الحديثة عن نفسها بنفسها، ومن هذه الأساطير حاجتها كل حين إلى إعادة تأسيس العالم من أول وجديد، ومنها أيضاً أسطورة قدرتها كأنضج ما أنتجه النوع البشري للتصالح مع التراثات السابقة عليها، وبلومينبيرغ يدرج بالتالي كل الحديث عن «لاهوت سياسي للحداثة» في سياق وقوع مروّجي وجود هكذا لاهوت في شرك التصديق الحرفي لواحدة من أساطير الحداثة عن نفسها!
ما بين السابرين لـ«لاهوت سياسي للحداثة» وما بين الناظرين إليها كاستقلال فعلي عن الزمن اللاهوتي، ولو من خلال اصطناع أساطير ما بعد لاهوتية، إنما أساطير جديدة بالفعل، ترتدي العودة إلى متاهات فلسفة هيغل أهمية خاصة، وتحديداً من بوابة كارل لوفيت حين يلفت النظر إلى الإلتباس والإزدواجية عند هيغل في تناول موضوع «علمنة المسيحية».
فمن جهة، يمكن تأوّل نصوص هيغل ذات الصلة على أنّ علمنة المسيحية تعني استكمالها بشرائط ووتائر وأشكال جديدة، ومن جهة ثانية يمكن تأوّل نفس النصوص على أن علمنة المسيحية تعني في الجوهر قطيعة فعلية معها، تجاوز حاسم لها.
هل العلمانية مفهوم علمانية تماماً هو سؤال يقودنا الى الذي قبله: هل علمنة المسيحية خروج منها أو مكوث فيها؟ وهذا السؤال يُطرَح هيغلياً هكذا: أنى للروح أن يُنحَتَ في عالم؟
فليس يسع الروح فتح العالم بحق من دون أن يحلّ فيه جسداً، وعندما يحل فيه كجسد يتوه ويضيع نفسه، ثم يلاقيها ويصالحها بمصالحة العالم نفسه. ومن هم على يمين هيغل رأوا في تتمة هذا المنطق منحى تجاوزي للمسيحية مع الرغبة في دفنها ووراثتها في آن، بحيث يصير الفلاسفة (الهيغليون) ورثة المسيحيين (المرحلين إلى شبكة الماضي) لأنهم استخرجوا الحقيقة الفلسفية للمسيحية وبات بإمكانهم أن يتنعموا بها وهو ما لم تتمكن المسيحية نفسها من أن تنجزه. أما من هم على يساره، أي «الشباب الهيغلي» ومنهم لودفيغ فويرباخ، فتملكتهم الحاجة لفرض خلاصة محددة قوامها أن هذه الحقيقة الفلسفية للمسيحية التي يمكن للفلاسفة «ما بعد المسيحيين» استخراجها دوناً عن سائر المسيحيين، هي حقيقة إلحادية في صميمها، إرجاع ما نُسب للإله من صفات إلى الإنسان الذي هو مصدر هذه الصفات.
كان هذا قبل أن تتكشف لماركس شيئاً بعد شيء في شبابه مشكلة هذه النظرة، لأن إلحادية فويرباخ في «إرجاعها» صفات الإنسان من الإله انتهت إلى الوقوع في الحلقة المفرغة: إعادة تأليه الإنسان نفسه، ثم الإضطرار لقسمته الى قسمين، انسان إلهي من فوق، وانسان بهيمي من تحت. بالخيبة من هذا التداعي، تطوّرت عند ماركس تدريجياً، في سني شبابه، الحاجة للانتقال من الإشكال الهيغلي ـ الفويرباخي المتمحور حول علمنة المسيحية، والتباس هذه العلمنة بين طابعها كقطيعة مع المسيحية وبين طابعها كاستكمال لها وكاستكمال لتجسدها مع العالم وتصالحها معه، إلى الإشكال المختلف، أي الحاجة إلى «علمنة» الفلسفة نفسها، أي نقد اغترابها كفلسفة عن العالم، من دون أن يعفي هذا ماركس والماركسيين من بعده، وكما يظهر ذلك الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان كلود مونو في كتابه «المنازعة حول العلمنة من هيغل حتى بلومينبيرغ» من تدوير الإزدواجية نفسها التي رزح تحتها هيغل من قبل: فمن جهة، الماركسية تجذير للقطيعة مع ما هو ديني، ومن جهة هي دفع للنزعة الخلاصية المسيحانية إلى أقصاها، من حيث هي «مسيحانية دنيوية».
كاتب لبناني
استاذنا الكبير هذه مماحكة فكرية هامة لاشك. ولكن كيف يمكن فهم أن العلمانية في مقوماتها هي وضع الدين خارج السياسة، ومقولة ان المسيحية تتعلمن، أو العلمانية تتمسح؟ ويعتريني العجب دائما عندما اقرأ في الفكر الغربي ان الحضارة الغربية هي حضارة يهومسيحية في حين ان الحضارة هي تطور فكري وتقني وفني بينما الدين ثابت وليس متحولا
أنت جعلت تعريف الحضارة ثابت وتقدمي (تطور فكري) وأطلقت عدا ذلك. المهم ليس ما يفترض وينظر ولكن ما يتم اثباته عمليا. أي أسس وتعاليم الدين وضعته العلمانية خارج السياسة؟ بعض الشرائع والطقوس؟ هل ألمانيا والنمسا والولايات المتحدة دولا علمانية والأحزاب الحاكمة فيها مسيحية، وتنذر وتذكر ب”قيمها المسيحية” اذا ما أحست تقدم دين آخر قيد أنملة هناك! وكأن قيم الدين الآخر عدوانية أو مصدر قلق!
ما هو فهم الدول المذكورة أعلاه بالحضارة؟ الموروثات اللغوية الاحتفائية، النظرة للحياة والبناء المعيشي على أسس ومبادئ؟
لماذا تعتد بعض الشعوب بلباسها التقليدي وطبقها الشعبي، ولغتها أو لهجتها المحلية، ودينها؟