القاهرة ـ «القدس العربي»: المطلق أو (الدين في ذاته) داخل بنية الديانة، ينحصر في مبدأ الألوهية والأخلاق (الله ــ القيم الكلية). أما بقية مفردات البنية فتنتمي إلى دائرة التدين التي صنعها التاريخ الاجتماعي للبشر.. التشريعات (الأحكام التكليفية) والطقوس (شعائر العبادة) واللاهوت (التمثيلات أو التصورات المتنوعة لفكرة الألوهية داخل العالم)».
ستظل فكرة المطلق وانعكاساتها ــ التشريعات والطقوس ــ في الديانات التوحيدية محل بحث ونقد، نظراً لتراث ثقيل أصبح عبئاً على أصحابه، ومن خلاله يعيشون في محنة لا تنتهي. وتأتي أصوات تحاول جاهدة أن تننفض الغبار عن هذا التراث، سواء بنبرة هادئة بهدف التعديل أو التحديث، أو بنبرة حادة، لا ترى حلاً إلا في القطيعة التامة بيننا وبين هذا التراث ودلالاته. ومن أصحاب النبرة الأولى يأتي عبد الجواد ياسين، الذي يحاول من خلال مؤلفاته أن يتبنى وجهة نظر تحاول إصلاح الخلل. ويلاحظ من خلال مؤلفاته، مثل.. «السلطة في الإسلام»، «الدين والتدين»، وأخيراً كتاب «اللاهوت»، إنه يكشف رحلة التطور الفكري، والنظرة الانتقادية لموضوعات كانت تحكمها نظرة إصلاحية ــ من داخل رؤية سلفية ــ إلى نظرة إصلاحية أرحب وأعمق، وبالتالي منفتحة على أسئلة ما كانت محل بحثه من قبل.
تحويل النسبي إلى مطلق
يفرّق ياسين بداية ما بين (الدين) و(التدين). والحديث هنا من خلال نسق الدين التوحيدي بأشكاله الثلاثة، فهو مطلق مفارق، صادر من أعلى، ولا ينتمي إلى علم الاجتماع وقوانينه، وأهمها قانون التعدد والتطور. وبذلك فهو ثابت. أما التدين فهو كيفية صياغة هذا الدين من قِبل البشر، وبالتالي يدخل في إطار كونه فعلاً من أفعال الاجتماع، لذا يحتكم لقوانينه. فالتشريعات والطقوس ــ بخلاف شكل الديانة ــ لا تمت إلى المقدس الذي لا يُمس ــ المطلق الذي لا يتغير ــ بل تتطور وتتبدل وفق مقتضيات المجتمع، فهناك طقوس وتشريعات كانت سابقة على التصور الديني النهائي ــ الإسلام على سبيل المثال ــ كطقوس الحج وبعض الحدود، فما صاغها سوى البيئة التي نشأ فيها الإسلام ــ لا نريد التعرض إلى الكتاب المقدس الإسلامي ونصوصه ــ فالنص يخاطب بشراً ويتفاعل من خلالهم.
ومن هنا تأتي إشكالية (الديانة)، التي هي بدورها صيغة أخرى من صيغ التدين. هذه الصيغة التي لم تكن إلا سلطة ملزمة لجميع مَن يدينون بها، لأنها منذ نشأتها ارتبطت داخل النسق التوحيدي بجود المؤسسة الدينية وتداخلها العضوي أو الوظيفي مع الدولة التي ظلت تحافظ على ارتباطها التقليدي بالدين. فالديانة التوحيدية التي نشأت على يد المؤسس بمنطوق بسيط يدور حول المطلق، كانت تأخذ في التضخم تدريجياً عبر ممارسات التدين التي تنضم إلى هذا المنطوق، وتكتسب بقرار المؤسسة صلاحيات السلطة المؤبدة للمطلق.
لم يتعرّض ياسين إلى الكتب المقدسة بصورها الثلاث، وكيف تغيّرت صورة (الله) بداية بالتوراة ومروراً بالمسيحية ووصولاً إلى الإسلام. فكيف ولم هذا التغيّر؟
التشريع
وفي ما يخص التشريع، خاصة التكاليف ذات الطابع الاجتماعي ــ دون العقائدي ــ يرى ياسين أن «النقاش حول فكرة القانون باعتبار أنه في جميع الأحوال واقعة اجتماعية محضة زمنية، تعكس حاجات وعلاقات تاريخية وإقليمية خاصة، وأنه يظل كذلك حتى إن تضمنه نص ديني. وانصب خصوصاً على التشريع الإسلامي، حيث جرى بشكل تطبيقي فحص طبيعته التاريخانية، بدءاً من ظهوره في النص القرآني كرد فعل لظروف الواقع المحلي التفصيلية، وبالاستعارة المباشرة منه، حتى تشكله المتطور بواسطة الفقه في منظومات حقوقية متعددة، تعكس التعددية المذهبية والجغرافية التي أفرزها التطور السياسي والاجتماعي العام». لاحظ أن هذه التعددية المذهبية لا تتفق في أشكالها الكلية، بل أنها تحمل صراعاتها المضمرة والمعلنة، فحتى وجهات النظر المختلفة لا تحتمل (الآخر) وكأنها احتمت بالمطلق التوحيدي، وجعلت أفعالها وأفكارها تحدث من خلاله، أي فكرة اكتساب القداسة المطلقة.
مفارقات اللاهوت
والتساؤل هنا يدور حول هذا (المطلق) الثابت الذي لا يتغير، فكيف جاءت هذه الأشكال من الديانات ــ ديانات الوحي الثلاث ــ مع ملاحظة أنها صادرة عن إله واحد؟ فكيف غيّر الإله صيغة خطابه ونصوصه أو نصه المقدس؟ فالقول بالوحي عن المطلق المفارق ذاته كان يقتضي وجود تصور واحد للمطلق داخل العالم، أي يقتضي عدم تعدد الديانات التوحيدية، إذ يعني الوحي أن الله الواحد هو الذي يُملي صيغة اللاهوت، ليعرِّف بذاته على الصورة التي يريد للبشر أن يعرفوه بها. فلماذا تتعدد صور اللاهوت في كل مرة يُقال فيها بتجّد الوحي؟ أو لماذا تتعدد الديانات؟
هنا يصبح اللاهوت، وكأنه الصوت الخاص الحامل للثقافات والتصورات المختلفة لكل مجتمع تطور أو تباين الوحي من خلاله، وأملى نصوصه على هذه البيئة أو تلك. ويرى ياسين أن اللاهوت الإسلامي من حيث هو ككل لاهوت فعل تدين صادر عن تاريخه الخاص، أي من حيث هو عموماً فعل اجتماعي ينشأ عن مؤثرات قائمة في الواقع المحلي، ويتغير نتيجة للتحولات التي تطرأ على هذه المؤثرات، ومن حيث هو في الوقت ذاته، امتداد أو تنويع لنسق ديني سابق نشأ وتطور في محيط جغرافي وثقافي مجاور. هذا اللاهوت المحكوم بالتنوع والتطور ــ نسبي بالأساس ــ جعل من نفسه مطلقاً، وبالتالي لا يُسمَح بالخروج عليه. هذه المعضلات تنتفي عن ديانات أخرى كالبوذية والهندوسية مثلاً، لأنها حافظت على المسافة بين ما هو مطلق وما هو نسبي.
المبدأ الإيماني
ينطلق عبد الجواد ياسين في طروحاته من مبدأ إيماني لا يحمل شكاً في المطلق (الله والقيم الكلية)، وينصب نقده وانتقادته إلى الفعل البشري الذي حوّل سلوكيات وطقوس بشرية إلى أفعال إلهية. لم يتعرّض ياسين إلى الكتب المقدسة بصورها الثلاث، وكيف تغيّرت صورة (الله) بداية بالتوراة ومروراً بالمسيحية ووصولاً إلى الإسلام. فكيف ولم هذا التغيّر؟ وإلا سنعود بذلك إلى معضلة (الوحي) الذي يُعيد الصيغة بأشكال مختلفة. ومن هنا سيصبح النص نفسه محل تساؤل كبير، وسيطاله أيضاً ما طاله (اللاهوت) من انتقادات. لذلك فالمؤلف وإن تطورت أفكاره ورؤيته من خلال مؤلفاته السابق الإشارة إليها، إلا أنه يتطرق فقط للفعل الاجتماعي (الواقعة الدينية وآثارها)، دون التطرق لهذا التغيّر والتطور الذي طال المطلق بدوره ــ تصوّره على الأقل ــ الإله القاسي الدموي في اليهودية، والأكثر تسامحاً في المسيحية، وصاحب الأسماء الحسنى في الإسلام. ألم يكن هذا التصوّر المنصوص عليه في الكتب المقدسة الثلاثة، مرهوناً بدوره بالواقع الاجتماعي وتأثيره في فكر وروح مَن دوّن هذه النصوص أو حتى مَن زارهم الوحي!