بيروت ـ «القدس العربي»: جريئة يُسرى مقدِّم في اعترافاتها بعقوق حضورها كأم وابنة، وضعت نفسها في كتابها الجديد الذي حمل عنوان «صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر» ــ صدر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـ أمام محكمة ذاتية شفّافة ومرّة، وراحت تقلِّب صفحات العمر مع دخولها سن التقاعد الوظيفي. ادعت على نفسها وحاكمتها في آن، حتى محامي الدفاع المحدود المساحة تولت مهمته. استذكرت الأعباء التي أضافتها الى والدتها التي ترملت صبية وأنشأت خمسة أطفال.
الكاتبة التي كانت تشق طريقها وسط مفاهيم عدّة حكمت جيل مرحلتها من النساء ومنها رفض النمطية، بما فيها واجب الأمومة، صبّت مزيداً من الشقاء على والدتها حين صارت أماً، فأتى كتابها تطهيراً للذات.
امرأة وامرأة
وضعت الكاتبة حياة والدتها «سُكنة» نصب عينيها. تجربة كبيرة عايشتها منذ طفولتها وموت والدها مقتولاً. أم أرملة وصبية لم يُغرها رجل رغم كثرة المتقدمين طلباً ليدها. رفعت راية الأمومة واستسلمت لتربية أطفالها. زهدها بالعيش، وعملها في الخياطة وأسى الحياة المتصاعد، صورة بقيت ماثلة أمام الابنة. وصفتها بـ»كنت… أكثر نساء الأرض حزناً وصمتاً ووحدة».
في صفحة الكتاب الأولى حددت مقدِّم بعض مقاصدها من اعترافاتها، «لطالما أفزعني أن أشبهك يا أمي، كأن الشبه بك قيد دهريٌّ يُكبلني.. كأن الشبه بك يميتني قبل أن أموت!» وتابعت سرد ما ترفضه من تماثل «أردت أن يتّسع الفارق بيننا، أن أصير النقيض منك، وأن يكون لي وجه مختلفٌ عنك، ينفر من منطق التماثُلِ، ويرذل مفهوم الوراثة والموروثات». عقدت الكاتبة مقارنة بين امرأتين تقفان على طرفي نقيض، والدتها وهي. مقارنة تستدعي التبصر. امرأتان بمفهومين متباعدين، ومبدأين في الحياة لا مشترك بينهما، خاصة في عزف سيمفونية الأمومة. تقول: «جنحْتُ في الأمومة عن مذهبك». وكأنها بذلك ترغب ببناء «لحنها» الخاص، الذي وصفته بأنه لحن «ظلّ ناقصاً لم يكتمل». كتبت أمومة والدتها بأرق وأعذب ما يكون من قدسية الأمومة «حَلَلْت فينا لتحْيينا، وجعلتنا شركاء الله في قلبك… تحديت المستحيل. بذراعي إلهٍ دحرجت صخرتك». تقدير كبير لعطاءات أم، ومع ذلك لا تريد أن تكونها. الأم التي لم يؤرقها سؤال في عزفها للحنها في الحياة، برز نقيضه لدى الابنة التي حاصرتها أسئلة الشك الملحة؟ «أما لحني أنا…تركته مطعوناً بالشك، عالقاً بي ما يجب وما أحبُّ، وظللت أصارع المتاهة، وأتشهّى وساوس الإثم.. وأورط نفسي في حب نفسي».
سيرة الذنب
بدأت يُسرى المقدِّم مسار صراحتها وتطهير نفسها من عقد ذنب تشعرها تؤرقها حيال والدتها وأبنائها. أخضعت تلك النفس للمحاكمة، فربما تنجو بذلك من عقد «الذّنب التي تجذّرت فيَّ»، خاصة مع طفلها «وبكر رياحينها». تدرك فعلتها حيال أمومتها لتكتب اعترافاً يحمل اعتذاراً نتلمسه مما وراء الكلمات، وليس عبر أحرفها: «غير مجد أي تعويض يأتي متأخراً! في الحب يا أمي لا ينوب أحد عن أحدٍ! في الأمومة بالتحديد أجمل الرسائل ما يصل مباشرة». وهنا تجدر الإشارة إلى استحضار الكاتبة لوالدتها في مقارنة حول المسألة المفصلية التي تستحوذ على الدور الأساس من هدف الكتاب والكتابة، ألا وهي عقدة الذنب. مقارنة مؤكد أنها تقول النقيض: «هل سمحت لنفسك بمحاكمة نفسك بتهمة الذنب تجاهنا؟ وما كان ذنبك يا أمي الإماتة أم التقصير؟».
وصفت يُسرى مقدِّم نفسها بالأنانية، ليس في جملة عرضية، بل في مواقع متعددة من الكتاب وبصيغ مختلفة. واعترفت بأنها أحبت نفسها «قليلاً، ربما أكثر ما يجيزه لي العرف الاجتماعي الصارم». هي بارعة وعبر تظهير لغوي أنيق في تدوين ما تشعره تقصيراً في أمومتها مما تسبب لها بندوب وثقوب «سئمت ثقب الأمومة الأكول». وكأنها تجلد ذاتها.
لكنها وفي مساحة ملحوظة من الكتاب ترمي بعض ما كانت عليه من تخلٍّ على الصراع مع مؤسسة الزواج «ما عدت أريد عيش أمومتي موظفة بدوام كامل في مؤسسة الأب»، فهل هو هروب أم تبرير للغياب؟ ربما كان لعنوان التحرر والمساواة الذي نما بقوة في مجتمعنا بعد ربيع 1968 الباريسي أثره على التمرد، الذي خاضته الكاتبة تجاه مؤسسة الزواج والأمومة؟ مع العلم أن الكتاب يتضمن سلسلة من الصراعات المتفرعة أحدها من الآخر، ومنها الصراع بين دور الأم الذي لا إجازة منه، وطموحها كشخص له استقلاليته وحياته، فهل استسلمت حين قالت في أمها الجملة التالية: «أمثالك يا سُكنة يولدن معصومات/رسوليات»، أم زادت لديها جرعة الرفض والتمرد؟
فليكن غياباً
«الحب المُسربل بالالتباس» كلمات تختصر عاطفتها نحو فلذات أكبادها، ـ فإلى بكر رياحينها لها ابنتان من زواج ثانٍ ـ وكأني بها تنكش في الزوايا والثقوب لمزيد من تأزيم الأزمة، والمثابرة في إطلاق سيل من التساؤلات من الصعب إيقافها. ربما أدركت يُسرى مقدِّم في وقت لاحق بأن الأمومة وحدها، ودون سواها في هذا الكون تستولد الحب غير الشروط. «وأشعر بأني أموت كلما اجتثثت ذنباً وكتبته»، هذا ما سطّرته يُسرى مقدِّم حين كانت بصدد كتابة صفحاتها العلاجية. اختصرت ذاتها بجملة يصعب أن يصل إلى عمقها وصراحتها كُثُر. إذ تقول بنفسها «الأم الغائبة والابنة العاقة..ألوم أمي افتراءً». وبتعريج الكاتبة على حياة أبيها ومشاغله وهو على قيد الحياة، كانت مباشرة وصادقة كما حالها مع والدتها. سعت للبوح بما أقلق طفولتها لدى موت أبيها قتلاً. سردت صورة الأب بوجهيها المادي والنفسي. صورة بنتها من نتف أخبار متناثرة، ومن إجابات على أسئلة مُلحة.
في ختام هذه المقاضاة الذاتية تفصح يُسرى مقدِّم بأسى وتساؤل عن واقعة غيابها من صورة عائلية ليلة عيد الميلاد في منزل ابنتها. وكأن تقرأ بين السطور أن تاريخ العقوق يعيد نفسه. آلمها غيابها من الصورة، سواء كان مقصوداً أم سقط سهواً. ومعه تسرد بإيجاز بليغ دخولها عمر التقاعد الوظيفي، واختيارها الوحدة بعيداً عن بيتها الزوجي ومشاعر الكآبة. فالكاتبة تُعلن عن بدء معركة جديدة ومفتوحة في الحياة.