اللبنانيون إلى صناديق الاقتراع: أرقام ساقطة وأوراق ممزقة وأيادٍ مكبلة تحت عباءة الديمقراطية

رلى موفَّق
حجم الخط
0

في الأنظمة الديمقراطية، يكون الكلام عن دور الانتخابات وتأثيرها على مستقبل الشعوب والدول والكيانات والقضايا المصيرية له معنى ملموس وحقيقي. في حالة لبنان الذي يتغنّى بنظامه الديمقراطي في محيطه العربي، تغيبُ وظيفة الانتخابات. هي أساساً وسيلة لتحقيق مشاركة الشعب في صنع القرار وإدارة الشأن العام والوطني. يتمُّ ذلك من خلال اختيار ممثلين عنهم لأداء هذه المهمة، فإذا أخفقتِ الطبقة الحاكمة، تتمُّ محاسبتها في صندوقة الاقتراع عبر تجديد النُخب السياسية. غير أن هذا الاستحقاق الدستوري تحوَّل إلى عملية تجديد للطبقة السياسية ذاتها المتحكمة بالسلطة لعقود خلت، بحيث بات دور الناخب مقتصراً على إضفاء الشرعية لاستمرار وجودها في جنّة الحكم.
اعتبر كثيرون أن «ثورة 17 تشرين» أدخلت وقائع جديدة على المشهد، وأن هذه «الثورة» أو «الحراك» أظهرت تبدلات في المزاج الشعبي، فشعار «كُلّن يعني كُلّن» أضحى متداولاً على ألسنة الصغار والكبار، يُجاهر كلٌ منهم به رغم أنه يُدين زعيمه بوصفه جزءاً من المنظومة. خرجتِ الناسُ إلى الشوارع والساحات مطالبة بالتغيير. ارتفع منسوب الاعتراض الشعبي على تدني مستوى الوضع المعيشي والحياتي. صبَّت الناس غضبها على القيادات السياسية التي تُدير البلاد، وتجرّأت على الزعامات. مَـنْ لا يتذكر صور الزعماء التي عُـلّقت على المشانق والتي لم تستثنِ أحداً؟ ذلك الغضب كان يُعبِّر عن رغبة جامحة في خلق نخب جديدة تكون بديلاً لـ«المنظومة» التي يريدون محاسبتها ومحاكمتها. عبَّرت كلمة «المنظومة» على مدى السنتين والنصف الماضيتين عن طبيعة الهدف. دلّت على «العدو» أو «الخصم» الذي تتم مواجهته لإسقاطه في الشارع أو في صناديق الاقتراع.
لم تقلب «الحركة الاحتجاجية» في الشارع الأمور رأساً على عقب. تماهى معها رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري بأن استقال. لكن استقالته لم تُحدث التغيير المنشود، بل نظر الأفرقاء السياسيون، على الضفة الأخرى من نظام المحاصصة الطائفية، إلى الاستقالة على أنها فعل خيانة للتسوية السياسية عام 2016 التي فاقمت من الخلل في موازين القوى لمصلحة إيران وأطاحت بمرتكزات التوازن الداخلي والخارجي الذي كان يحكم البلد. بعد تحرك الشارع، أطلَّ الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله بوصفه «مرشد الجمهورية» ورئيس البلاد الفعلي ليُعلن أنه الحامي للتركيبة الحاكمة.

القيادة من الخلف

تراجعت المنظومة إلى «القيادة من الخَلْف» عبر تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة حسان دياب علّها تمتصّ النقمة، لكنها عمّقت الأزمة بعجز أدائها وسياساتها الخاطئة وغياب الغطاء العربي عنها، فزاد الانهيار الاقتصادي – المالي ما كان يُنبئ بانفجار اجتماعي آت لا محالة. جاء تفجير المرفأ في 4 آب/أغسطس 2020 الذي دمَّر نصف العاصمة ليزيد الاحتقان ويُطيح بالحكومة. هبَّ العالم لنجدة بيروت بمساعدات إنسانية بفعل هول الحدث. وأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تقديم دور الحامي للمنظومة حين خاطب اللبنانيين الغاضبين بأنهم هم مَن أتوا بنوابهم إلى البرلمان مصدر السلطات، وأن عليهم أن يُغيِّروا في صناديق الاقتراع.
هي صناديق الاقتراع التي ستُفتح في 15 أيار/مايو المقبل في انتخابات نيابية أصرَّ عليها المجتمع الدولي وهدد بفرض عقوبات على كل مَن تسوِّل له نفسه التفكير بتطييرها. لكن هذا المجتمع الدولي الذي حمل العصا منادياً بضرورة إجراء الانتخابات في موعدها وبالحاجة إلى التغيير، أمعن في الوقت ذاته بتقديم الجزرة للمنظومة نفسها من خلال ضمان عودتها من جديد مكلّلة بشرعية لسنوات أربع مقبلة. ذلك أن عواصم القرار، مِن واشنطن إلى باريس وبروكسل، تعلم علم اليقين أن الأرضية ليست مهيّأة لانتخابات نزيهة وشفّافة. فلا هي ضغطت من أجل إصلاحات انتخابية بدءاً من إقرار قانون انتخاب جديد بديلاً للقانون الحالي الذي يُعمّق الانقسام والطائفية وفُصّل على قياس قوى معينة لضمان فوزها، ولا عملت على ضمان أمن الناخبين لتصويت حر، بعيداً عن سطوة السلاح وتأثيره، ولا سيما في مناطق نفوذ «حزب الله» حيث الكلمة العليا له في حضرة دولة «شاهد ما شفش حاجة». ولا ساهمت عواصم القرار في تمويل تنفيذ إصلاحات مقررة سابقاً مثل مكننة الانتخابات وإنشاء «الميغا سنتر» الذي يُمكِّن الناخب من أن ينتخبَ في مكان سكنه من دون الحاجة للانتقال إلى مسقط رأسه، متكبّداً مشقة المسافات الطويلة والتكاليف المالية والضغوطات التي تُمارس عليه من محيطه الاجتماعي، ولا هي عملتْ على تقديم تمويل مالي لهيئة الإشراف على الانتخابات لتأمين مراقبة فعلية على العملية الانتخابية، خصوصاً أن الموازنة التي رُصدت للهيئة متواضعة جداً (18 مليون دولار مقارنة مع 54 مليون دولار عام 2018) بحجة عجز مالية الدولة.
المجتمع الدولي قاطبة، المصرّ على تعزيز المسار الديمقراطي في لبنان من بوابة الانتخابات، يُدرك ملياً أن هذا الهدف لا يتحقق مع سطوة «صناديق الإعاشات» و«المازوت الانتخابي» للناخبين الذين فقدوا أدنى مقومات الحياة، ولا نزاهة مع انفلات «المال السياسي» وغياب شفافية الصرف الانتخابي والترويجي والإعلامي. ولا يكفي أن تأتي هيئات رقابية أُممية ليوم الانتخابات تجول مثل السائحين في المناطق لتوفير شرعية دولية للاستحقاق الديمقراطي بشكله الصوري. فيوم الانتخاب ليس سوى صدى لما سبقه من زرع، ليس بالضرورة زرعاً صالحاً، بل هو في أغلبه زرع مسموم أبشع ما فيه حملات التحريض الطائفية والمذهبية الجاهزة لحرق الأخضر واليابس كرمى عيون الفوز بمقعد هنا أو هناك، أو الحصول على أكثرية لا تُجيَّر في خدمة نظام المصلحة العامة بغية تحقيق مسارات التنمية والازدهار للمجتمع، بل في خدمة مصالح سياسية ضيّقة داخلية وأجندات خارجية تحوِّل البلاد والعباد إلى ساحة لتعزيز نفوذها وأوراقها وخططها وسياساتها الاستراتيجية.

تواطؤ على التغيير

وعليه، تصبح الانتخابات – في ظل هكذا واقع – عملية تواطؤ، وتحالف ضمني بين هذا المجتمع الدولي العالم بالحقائق وبين الطبقة السياسية المتنفذة التي تتسم بالوقاحة، وهو الانطباع السائد لدى شرائح واسعة من اللبنانيين سواء اقترعوا أو انكفأوا عن التصويت في يوم الاقتراع، فهم يُدركون أنهم عاجزون عن إحداث تغيير.
يقول مؤلف كتاب «وظيفة الانتخابات النيابية في لبنان» الدكتور أنطوان ساروفيم: «إنه في مسارنا السياسي حوَّلتنا الانتخابات إلى دمى متحركة». و«حوَّلت الناخب إلى رقم، يُضاف إلى أرقام كثيرة، والرقم قد يُحذف، وقد يسقط، وقد يُستعمل في أي رصيد في عمليتي البيع والشراء» و«الورقة التي يُسقطها الناخب في صندوقة الاقتراع، ليست إلا الناخب نفسه، لقد تحوَّل إلى ورقة. إنها ورقة تحمل ورقة، لا تُستعمل إلا مرّة واحدة، كتلك التي نستعملها عندما نحضر فيلماً سينمائياً، أو عند ركوب قطار، ومن بعدها تتمزّق الأوراق».
الناخبون على اختلاف مشاربهم وطوائفهم ومذاهبهم هم أرقام تُستخدم كل أربع سنوات لتمديد شرعية نخبهم السياسية المتصادمة حيناً، والمتعايشة حيناً آخر، والحامية لبعضها البعض في كل الأوقات، على قاعدة «بقائي مِن بقائك». الناخبون أوراق تُستخدم لمرة كل أربع سنوات لتكريس زعمائهم الذين لا يُساءلون ولا يُحاسبون ما داموا هم يوفرون الحماية للجماعات في طوائف خائفة من بعضها البعض، ومناطق تأبى الانفتاح كي لا يأكلها القادمون الجدد الذين يُنظر إليهم على أنهم غزاة وأصحاب مشاريع استقوائية وإلغائية للآخر في بلد يحمل سمة التعددية. هنا تصبح الأسئلة مشروعة: كيف يمكن بناء وطن تخاف فيه الأقليات من أكثريات إن حكمت، وتشعر الأكثريات بالغبن من أقليات رُسم على مقاسها الوطن لضمان حمايتها؟ كيف يمكن لمواطنين أن يعيشوا المواطنة فيما هم ليسوا متساوين أمام القانون، ولا ينظرون إلى الدولة بنفس المنظار، ولا يرون فيها الحامي والضامن، ولا يحملون نفس المفاهيم والرؤى، ولا يملكون الإرادة والرغبة للعبور إلى الدولة الواحدة؟ لقد بات لافتاً حجم الانكفاءات للجماعات اللبنانية بحيث تقوى حالة الجموح الداخلي لتأمين مقومات الكيانات والكانتونات والفيدراليات.

ضياع الفرصة

كان الرهان على القوى التغييرية التي قدَّمت نفسها على أنها وليدة «ثورة 17 تشرين» أو رافدة لها أو متماهية معها. استطاعت أن تهز كيان الجالسين على الكراسي، لكنها لم تفلح في خلق قيادة على الأرض قادرة على إدارة الجماهير نحو الهدف السياسي المنشود. التقطت الطبقة السياسية أنفاسها فيما كان نَفَسُ الحراك يتلاشى. تحولت إلى مجموعات لا تحمل رؤية مشتركة حول لبنان الغد الذي نريد. كان المطلوب رفع عنوان جامع اسمه استعادة الدولة. فالمطلوب أولاً استعادة الدولة ومؤسساتها من سلطة المافيا – الميليشيا كخطوة أولى نحو إعادة بناء الدولة عبر تطبيق القانون والدستور الذي ما زال ينتظر استكمال تنفيذ بنوده التي جرى الاتفاق عليها في «وثيقة الوفاق الوطني» في الطائف عام 1989 وهو الدستور الذي يضم في نصوصه آليه تطويره عبر اعتماد خطوات تمهيدية وإجراءات تدريجية نحو إلغاء الطائفية السياسية بما يأخذ اللبنانيين مجتمعين إلى دولة مواطنة بديلاً عن نظام المحاصصة في دولة فيدراليات الطوائف. مع اقتراب الانتخابات تشتتت قوى ما يسمى بـ«مجموعات الثورة» بدل أن تتّحد. سقط كثير من الأسماء في فخ «الأنا» المدمرة واللاهثة وراء لقب «سعادة النائب» أو نجومية زائفة. لم تنجح القوى التغييرية في تأليف لوائح موحدة على مستوى الوطن تُشكّل ما يشبه «تسونامي» انتخابي بحيث يكون للصوت صداه، وللورقة في صندوقة الاقتراع فعلها التغييري ووظيفتها في المحاسبة. أقصى ما يمكن أن يحصل في الاستحقاق حصول اختراقات محدودة.

تامين شرعية «المحور»

معركة الحفاظ على الأكثرية النيابية التي يتولاها نصر الله شخصياً، والذي بات ضامناً لها مع تعليق «تيار المستقبل» بزعامة سعد الحريري العمل السياسي، لا تنطلق من حسابات لبنانية تهدف إلى تكوين سلطة جديدة تحمل برنامجاً إنقاذياً للأزمة الاقتصادية – المالية التي تغرق فيها البلاد، إنما هدفها هو إعادة تأمين الغطاء الشرعي لـ«المحور الإيراني» الذي يمثله وحلفاؤه، وذلك لحسابات ما فوق لبنانية ترتبط بحاجات المشروع الاستراتيجي لطهران وتمدد نفوذها في المنطقة، في وقت عاد الفريق المقابل للاتكاء على العنوان السيادي وحصرية السلاح بيد الجيش اللبناني لشد العصب الانتخابي بعدما كان وضعه جانباً لسنوات لضرورات الانخراط في التسوية السياسية، فيما بعض القوى التي كانت تدور في فلك «14 آذار» سابقاً ورفضت التسوية، حافظت على أدبيات مواجهة هيمنة الدويلة على الدولة، وتخوض الاستحقاق بسقف سياسي عالي النبرة.
تذهب مراكز الإحصاءات الانتخابية إلى اعتبار أن نحو 110 مقاعد نيابية من أصل 128 مقعداً هو مجموع البرلمان بات محسوماً، بمعنى أن معارك اللوائح تدور حول 18 مقعداً في 15 دائرة، ربما تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً لكنها لن تكون نسبة قادرة على إحداث تحوّلات في حياة اللبنانيين الذين ينتظرهم صيف حار وشدائد أكبر مما يعيشونه اليوم.
بعد 15 أيار/مايو، لن تعود الطبقة السياسية بحاجة إلى كبح جماح الانهيار خوفاً من تصويت عقابي. فعلى صدى كلمات «إلى اللقاء في الانتخابات المقبلة» سيدخل اللبنانيون كأرقام ساقطة وأوراق ممزقة إلى الكارثة المنتظرة. سيكون هناك من يقول: هذا نتاج ما فعتله أيادي الناخبين. وسيكون هناك من يسأل: هل كانت أياديهم حرة أم مكبلة تحت عباءة الديمقراطية؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية