منذ أن بدأ النقاش يتطور، في نهاية القرن الماضي، حول ما صار يسمى «السرديات الكلاسيكية» في مرحلة ما بات يعرف بـ»السرديات ما بعد الكلاسيكية» تنوعت التصورات والمنطلقات التي تخوض في النقاش، من جهة، كما تعددت المقاربات التي ترمي إلى تطوير السرديات وتوسيع مجالات اشتغالها، من جهة أخرى. وإذا كان أغلب الباحثين الذين يعتبرون أنفسهم منخرطين في السرديات الجديدة، من مختلف أقطار العالم، ينطلقون، بشكل أو بآخر، من منجزات السرديات الكلاسيكية، كما أقام دعائمها جيرار جنيت، أجد باحثة فرنسية واحدة تشكك في القيمة العلمية والإبستيمولوجية للمشروع الجُنيتي.
وبما أنها تنطلق من اللسانيات التلفظية في تحليل السرد، تؤكد من جهة أن هذه اللسانيات هي التي تقدم ما يمكن أن ينتظر منها في تحليله. وأن ما اعتبر «سرديات بنيوية» مع جيرار جنيت وغيره من السرديين في السبعينيات، لا يستحق هذا الوصف (البنيوية) لأن جنيت ليس لسانيا، ولذلك لم يستفد من اللسانيات، ولهذا جاء تعامله مع بنفنست ناقصا، كما لم أنه يتعاط مع اللسانيات التوليدية، وهي في أوج عطائها. وتبعا لذلك فإن مشروع السرديات الكلاسيكية يظل ناقصا، وأن البديل يكمن في ما تقدمه اللسانيات التلفظية للسرد، وتقدم نموذج روني ريفارا وكورودا مثالا لذلك.
يمكنني أن ألخص كل أعمال الفرنسية سيلفي باترون، وهي غزيرة الإنتاج، في العمل على تحقيق هذا المسعى النقدي المتمثل في الهجوم على السرديات الكلاسيكية، والدفاع عن المقصد البديل من خلال ما تحققه اللسانيات التلفظية في التحليل السردي، ورغم كونها تدرج أعمال بعض الفرنسيين أمثال راباتيل ودانون بوالو، في المشروع الذي تنافح عنه تظل «السرديات التلفظية» كما تقدمها، على أنها إنجاز فرنسي محض، غير ذات حضور ولا تأثير بالقياس إلى الاتجاهات الأخرى التي تعرفها السرديات ما بعد الكلاسيكية.
لا مراء في أن النقاش حول واقع السرديات ومستقبلها مثمر وغني، لأنه يسهم في تعميق الحوار حول القضايا الأساسية والقديمة والمستجدة وفق التطور المعرفي. لكن بعض الانحرافات التي هي وليدة الحماس الزائد لبعض التصورات السردية، أو الانطلاق من الرؤية الجاهزة، أو المستنقصة لجهود سابقة، يمكن أن يكون له أثر سلبي في النقاش، لأنه يعود به إلى مسائل تم تجاوزها بسبب الحسم الذي عرفته في صيرورتها، أو لأن المنطلقات الإبستيمولوجية الأولية تؤكد تهافتها.
فما هي علاقة السرديات الكلاسيكية بالبنيوية التي ترمي باترون إلى نفيها عنها؟ وهل من الضروري أن تتبنى السرديات نظرية لسانية ما لتكون بنيوية في مرحلة تشكلها؟ لا أحد يجادل في أن البنيوية كانت اللسانيات وراءها باعتبارها علما رائدا. فمع البنيوية أُعطِي للغة المقوم المركزي في التعامل مع الظواهر الإنسانية والاجتماعية، من خلال الكثير من العلوم الاجتماعية والإنسانية.
إذا سلمنا بمنطق باترون نقول: لو اكتفى جنيت وغريماس بما كانت تقدمه لهما الاتجاهات اللسانيات المعاصرة، وعملا على تطبيقها كما تدافع عن ذلك، لما تطورت الدراسات السردية نهائيا، ولما كان في الإمكان الحديث عن السرديات الكلاسيكية، ولا حتى السرديات التلفظية.
لقد ساهمت اللسانيات البنيوية فعلا في قيادة الإنسانيات إلى تجديد نفسها عن طريق استلهام إجراءاتها، وكيفية تحليلها للغة، لكن ذلك لا يعني أن كل العلوم الاجتماعية والإنسانية باتت تطبق إحدى النظريات اللسانية. يبدو لنا ذلك واضحا في اجتهادات ستروس لبناء أنثروبولوجيا بنيوية، ولاكان في علم نفس تحليلي بنيوي، على سبيل التمثيل.
إن البنيوية باتت الآن واضحة للجميع بعد زوال التباسات البدايات، إنها إبدال معرفي جديد، وكنت أعتبرها دائما بمثابة وضعية جديدة تسعى لتجاوز ما عرفته الإنسانيات والعلوم الاجتماعية إبان تشكلها مع وضعية القرن التاسع عشر، بل إن لسانيات دو سوسير في حد ذاتها ما هي إلا وليدة الوضعية. وعندما أسس الشكلانيون الروس البويطيقا الجديدة كانوا يريدون بذلك تحقيق الدراسة العلمية للأدب، مستنيرين في ذلك بما حققته اللسانيات. هذا الطموح نفسه هو ما كان يسعى غريماس إلى تحقيقه، وهو يؤسس «السيميائيات الأدبية» وهو ما نجده أيضا مع جنيت وهو يشتغل بالسرديات. فرض الإبدال البنيوي اللساني نفسه، ودعا الباحثين في المجالات المختلفة إلى الاشتغال في نطاقه. فغريماس اعتمد التطوير الذي أدخله يلمسليف على العلامة اللسانية، واتخذه أساسا لدراسة العلامة الأدبية، خاصة السردية، فاعتبر السيميائيات أعم من اللسانيات، لأنها تدرس العلامات اللغوية وغير اللغوية. فكان هذا التطوير مهما لأنه وسع مفهوم العلامة بجعله منفتحا على أي علامة كيفما كان نوعها، ولما قدم بارت تعريفه التاريخي للسرد باعتباره موجودا في كل شيء، وسع مفهومه ليتجاوز «اللغة» إلى غيرها من الوسائط التي توظف السرد، فالتقى بذلك المشروع السيميائي مع المشروع السردي، في تجاوز الحدود التي كانت تقف عليها اللسانيات، وكان تحليل الخطاب، أيا كان نوعه، والسردي بصورة خاصة، دليلا بدوره على تجاوز الحدود التي وقفت عليها اللسانيات، وكانت النتيجة بروز السرديات مع جنيت، والسيميائيات مع غريماس.
إذا سلمنا بمنطق باترون نقول: لو اكتفى جنيت وغريماس بما كانت تقدمه لهما الاتجاهات اللسانيات المعاصرة، وعملا على تطبيقها كما تدافع عن ذلك، لما تطورت الدراسات السردية نهائيا، ولما كان في الإمكان الحديث عن السرديات الكلاسيكية، ولا حتى السرديات التلفظية. إن السرديات ليست هي اللسانيات، وإن استفادت منها. فما هي منجزات السرديات التلفظية؟
كاتب مغربي