لم تكن الطريق أمام اللغة العربية معبدة وسهلة لكي تدخل المحافل الدولية، وتأخذ مكانها بين اللغات المستخدمة فيها، خصوصا وأن تركيبة العالم الحديث بأقطابه ومؤسساته الدولية بدأت تتضح معالمها ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكان العرب حينها غير موجودين بشكل فاعل على خريطة المنظمات الدولية، وكانوا خارجين لتوهم من تحت حكم العثمانيين الذين قدموا اللغة التركية على العربية، وجعلوا من اللغة التركية اللغة الرسمية في كل البلاد التي كانت تحت حكمهم، وفرضوا تعلمها على رعاياهم الراغبين في العمل في أجهزة الدولة.
تتريك إدارات الدولة
وفي آخر عهد الأتراك أي في الفترة التي سيطر فيها الكماليون الطورانيون على مقاليد الأمور، لم يكتفوا بتتريك كل إدارات الدولة ودوائرها، بل إنهم جعلوا الأذان أيضا باللغة التركية…!
هذا بالإضافة إلى أن اللغة العربية قد انكفأت ولم تعد لغة مساهمة في إنتاج الحضارة والتمدن الإنساني، وأن الناطقين بها لا يملكون النفوذ والجيوش القوية. زد على ذلك أن بلاد العرب وبعد الحرب العالمية الأولى وقعت تحت نير استعمار شرس سمى نفسه «انتدابا» في الوقت الذي تم فيه تفتيتها وتمزيقها وجعلها دولا وكيانات رغما عن أنف شعوبها، وذلك بعد اتفاقية العمين سايكس وبيكو…
ومع نمو حركة التحرر من الاستعمار، ونيل معظم الدول العربية استقلالها كان لا بد من العمل على تأكيد الانتماء والهوية الوطنية التي تعتبر اللغة أحد أهم ركائزها، ويجب أن تعطى مكانها ودورها.
كانت البداية في عام 1948م، وأثناء المؤتمر العام الثالث لمنظمة اليونسكو في بيروت، حيث تقرر اعتماد اللغة العربية لغة عمل رسمية للمؤتمر إلى جانب الإنكليزية والفرنسية. ثم خطت اللغة العربية في عام 1954 خطوة أخرى نحو الأمام، بعدما صدر قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبر اللغة العربية من ضمن اللغات التي تنشر فيها الوثائق الرسمية، ولكن بقي الأمر مقصورا حينها على أربعة آلاف صفحة سنويا… إلى أن كان عام 1960، وخلال الدورة الخامسة عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة حين أصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على إلقاء كلمته باللغة العربية، فكان أول خطاب رسمي لرئيس عربي باللغة العربية في محفل دولي، ومن على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.
منظمة الوحدة الأفريقية
كذلك قامت مصر في عام 1963 وبالتعاون مع قادة بعض الدول العربية والأفريقية، بجعل اللغة العربية لغة رسمية في منظمة الوحدة الأفريقية، وذلك على الرغم من معارضة إمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي حينها، إلى أن كانت الدورة الـ 28 للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973 حيث تم خلالها اعتماد اللغة العربية كلغة أساسية في الأمم المتحدة وكل مؤسساتها ومكاتبها، وأصبحت بالتالي اللغة العربية هي اللغة السادسة المتداولة في الأمم المتحدة…
لقد شكل موضوع فرض اللغة العربية في المحافل الدولية اعترافا بما لهذه اللغة من دور معرفي وعلمي وحضاري، وإقرارا غير مباشر بما قدمته هذه اللغة والمتحدثون بها للحضارة الإنسانية.
وكان في اعتماد ذلك فخر تدعيه أكثر من دولة عربية، بل يدعي بعضها أنها كان من صناع القرار نفسه… وهذا ليس بالمشكلة، ولكن المشكلة أن بعض هذه الدول التي تدعي هذا الإنجاز العظيم، فإن أعضاءها اليوم يطعنون اللغة العربية في الظهر، وذلك عندما يتحدثون ويلقون كلماتهم أمام المحافل الدولية بالإنكليزية أو الفرنسية…! وأن اللغة العربية وبعدما أصبحت اللغة السادسة في الأمم المتحدة ومنظماتها، فإن أبناءها من العاملين في تلك المنظمات ومكاتبها المتعددة حول العالم يُسطرون مراسلاتهم مع بلادهم ومندوبي دول العالم بغير اللغة العربية…!
المحافل العلمية
إن مما تعانية اللغة العربية اليوم هو إعراض كثير من أبنائها المثقفين عن التحدث بها، واستخدام الفرنسية والإنكليزية أو الإسبانية بدلا منها في نقاشاتهم وتخاطبهم مع بعضهم… وخصوصا من قبل المسؤولين المنتمين إلى أرومتها والمتحدثين في أروقة الدبلوماسية الدولية، حيث بدأت اللغة العربية في هذا المجال تشكو من تراجع كبير، حتى إن المراسلات الدبلوماسية أصبحت تغلب عليها لغات المستعمر القديم والحديث، في ظل تساهل من أنظمة الدول العربية وإداراتها المختلفة في استخدام لغات بديلة عن العربية في تعاملاتها ومراسلاتها الدولية حتى تقلص استخدام العربية وتراجع إلى حد كبير يبعث على القلق، ويشكل في حد ذاته أزمة قد تتطور إلى ما هو أسوأ… في الوقت الذي نلاحظ فيه ضعف العربية المستخدمة في هذه المراسلات الرسمية للدول العربية، وفي تلك التي تلقى من على منابر المحافل العلمية والدبلوماسية إن كان من حيث الأسلوب والصياغة والقواعد والإملاء، أو من حيث المفردات التي كثير منها غير عربية أصلا ومبنى، زُجَّ بها في قاموس العربية بعدما تم تقميشها من كل واد عصا… فغدت لغتهم هذه لغة ركيكة لا تشبه العربية التي عرفها الأجداد، وذكرت في القواميس وكتب اللغة…!
وهذا في حد ذاته من التحديات التي تواجه اللغة العربية في هذه المرحلة، وينذر بضياع لكل الجهود التي بذلت في السابق من أجل وضع اللغة العربية على خريطة المحافل الدولية، مما قد يؤدي إلى شطبها من على القائمة بحجة أن أبناءها لا يتعاملون بها، وأيضا لتخفيف الأعباء المالية على الميزانيات…!
وهذا وإن كان يفرح كثيرين من أعداء اللغة العربية والعروبة، إلا أنه يعني في حد ذاته ضياع لمكتسب حضاري، وكم فرطنا نحن العرب وأضعنا عبر تاريخنا من مكتسبات…!
إن هذا الموضوع بالرغم من خطورته، فإنه لا يوليه أحد اهتماما كافيا، ولا يتم الحديث عنه في المؤتمرات واللقاءات التي تعقد حول اللغة العربية ومصطلحاتها وقواميسها وتطورها وطرق تدريسها… وما أكثرها في أوطاننا وحول العالم…! وحتى فيما لو تم تناوله خلالها، فإن المقررات التي تصدر عن هذه المؤتمرات هي في محصلتها مجرد حبر على ورق، ولا يعيرها أحد أي اهتمام، ولن يطبق شيء مما يصدر عنها… بل هي في غالبيتها إحتفائيات للمتع الفكرية، والخطب الرنانة، والصور التذكارية… وأن البحوث المفيدة التي تلقى فيها وبذل معدوها جهودا كبيرة في كتابتها، فإنها وللأسف لا تؤخذ بعين الاعتبار…!
وهنا لا بد من التوقف عند أحد هذه المؤتمرات التي تشكل أحيانا سخرية باللغة العربية، وعدم احترام لها حتى في يوم عيدها وأثناء الاحتفاء بها. ففي مؤتمر عقد خصيصا في منظمة اليونسكو في باريس للاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية، وحضره أساطين اللغة العربية في العالم العربي والغربي من المستشرقين، والذين ألقوا جميعا كلماتهم بلغة الضاد السليمة، ما عدا باحثة اعتلت المنصة وأعطت الجميع درسا بلغة فرنسية ركيكة مسطحة، حول اللغة العربية لدى أبناء المهاجرين في فرنسا، الذين لا تحسن أسرهم تكوينهم لغويا للتحدث بلغة الضاد…! وفي عام تلاه، تحدثت باحثة أخرى أيضا بعامية بلدها، المتداخلة مع كم كبير من الألفاظ الإنكليزية والفرنسية والإيطالية وبشكل غير مترابط، فلم يستطع أحد من الحضور فهم شيء مما قالته…
إجراءات صارمة
ومن هذا المنطلق يجب عدم الركون إلى عقد المؤتمرات وانتظار ما يصدر عنها، ولا التداعي إليها لعلاج هذه المعضلة التي تشكل فعليا خطرا حقيقيا على مستقبل اللغة العربية في المحافل الدولية والرسمية، وخصوصا أن معظم هذه المؤتمرات تخضع لقواعد الزبائنية والشللية. ولهذا لا بد من قرارات وإجراءات صارمة تتخذها كل دولة على حدة بحق موظفيها وأعضاء سلكها الدبلوماسي، وذلك لدفعهم للتخاطب باللغة العربية. وأن تجعل الدول العربية من اللغة العربية قواعد وإملاء وثقافة (وأضع تحت كلمة ثقافة ألف خط) من ضمن مقررات الدورات التدريبية للدبلوماسيين، وأن يتم إعداد مناهج خاصة لذلك. بل أن تجعلها من ضمن المواد الأساسية في الامتحانات التي يجب تخطيها لدخول السلك الدبلوماسي… وأن يلتزم بهذه القرارات أيضا بعض القادة والمسؤولين العرب الذين يستسهلون التحدث بغير العربية مع الوفود القادمة لزيارة بلداننا، وكذلك من على المنصات الدولية المختلفة. مع العلم أن كثيرا من قادة العالم الغربي يجيدون التحدث بعدة لغات، ولكن يفضلون الحديث بلغة أوطانهم مع وجود المترجم عند استقبالهم للوفود الأجنبية، وذلك احتراما لأوطانهم وللغتهم وما تمثله من أبعاد، ولما يحمله ذلك من معان تتخطى اللسان واللغة التي ينطق بها.
كاتب من لبنان يقيم في باريس
مقال رائع وهام جداً وموجه لجميع المثقفين العرب عموماً وخصوصاً إلى الذين يتحرجون من التحدث بلغتهم العربية الفصحى في لقاءاتهم الرسمية الدولية ثم إذا هم كذلك لايتقنون التحدث باللغة الأجنبية لنظراءهم الغربيين.
مقال رائع ومهم في ضرورة تنبيه المثقفين الى ان لغتهم اولى بهم اتقانها والتحدث بها بدل التشبث بلغات لا يتقنوها تجر عليهم الانتقاص من شخصياتهم لركاكة حديثهم فيها مقلدين لغرب كل همه طمس هويتهم وليتهم يعون ذلك ويتعلمون
بورك الكلتب وبورك حرصه على انتمائه وعربيته وعروبته
له التحيات وللعربية البقاء رغم انوف المتقولين والمدعين الثقافة وهم عنها بعيدون