ما يحدث في الذهن يظل إلى اليوم لغزا رغم التطور الكبير الذي تشهده الدراسات النفسية والعصبية والبيولوجية. يظل لغزا لأن حجم الأسئلة أكثر من الإجابات المتاحة. وحجم الانفعالات الذهنية والعصبية الغامضة أكثر بآلاف المرات من فهم أسرارها. وما يزال مفتاح من مفاتيح الدخول إليها مهم هو اللغة، لكن اللغة هي أصلا من منتجات الذهن، فهل تستطيع أن تصفه هو الذي أنتجها؟ وهل تستطيع أن تداويه إن كان فيه عطب أو إشكال في المعالجة؟
من الأعراض التي اعتمدها الأطباء لمعالجة الذهن المريض أعطابُ اللغة، ومن بينها الحبسة، وهي اضطراب لغوي يظهر على من اكتسبوا اللغة ويرتبط الاضطراب بصعوبة في إيجاد كلمات، وقد يصل إلى حد فقدان المرء القدرة على التعبير عن نفسه بشكل كامل. من هذه الحبسة يمكن أن نصل إلى مداواة الداء الناجم عنها في الدماغ؛ إذ الحبسة ناتجة عن تَلف في منطقة ما منه، ولذلك تختلف الحُبسة باختلاف المنطقة التي فيها هذا التلف، وهي مناطق اللغة في الدماغ. فحبسة بروكا Broca مثلا، تهم إنتاج الكلام لا فهمه، فالمتكلم يجد صعوبة في إيجاد كلمة أو في التعبير عموما، لكنه لا يجد صعوبة في الفهم. بينما تتعلق حبسة فرنايك Wernike، وهي حبسة أخرى، بتعطل فهم الكلام لا بإنتاجه.
ليس الهدف من هذا المقال الرجوع إلى استعمال الأعطاب اللغوية مُرشدا إلى مواضع الأعطاب في الدماغ بقصد معالجتها؛ المهم عندي هنا أن تخبرنا اللغة عن العوالم غير المرئية، بدءا من الدماغ وصولا إلى العوالم الماورائية. في حالات عصبية عَصِيبَة يمر بها الإنسان وما أكثرها، يحتاج ولكي يعينوه، إلى لغة تكون دقيقة ومباشرة ورقراقة حتى يفهموا ما لديه. في هذه الحالة يكون الحديث حدثا في حد ذاته، لأن الصمت لن يصف، ولأن الرمز لن يفي، ولأن الغموض سيُعمِي. يَطلب الناس وقتها أمرا عسيرا لأنهم يطلبون من عليل أن يتحدث بدقة عن حالته. وهو حين يتحدث يضع لهم الآثار كي يتبعوه إلى تلكم المجاهل المظلمة في ذهنه. يَحدث أن يكون الذهن قاسيا على أصحابه لأنهم لم يعرفوا كيف يواسونه، أو كيف يحسنون توجيهه الوجهة التي يريدون؛ يمكن أن يعيش بما هو دماغ على نقص معين يريد كمالاً، فيكل ويتعب فيضطرب العمل. تصور أن يديك وهي تأخذ كأسا إلى فيك تصاب بارتعاشة فتسقط الكأس؛ سيكون ذلك عملا عاديا، لكن تصور أن الأمر سيتكرر دوما وكلما رفعت إلى فيك كأسك انكسرت. لن تحتاج لغة واصفة في هذه الحالة، ستحتاج لغة تشكو أو تطلب العون أو تؤول ما حدث، لكن الإشكال حين يصبح حديث المرء عن أرق يطول أو عن هوس لا معقول، أو عن رهاب من أمر في الخيال يعتقده صاحبه واقعا. كلنا أصحاب خصاصة لغوية حين يتعلق الأمر بفهم شيء لا نفهمه، أو بوصف شيء نريد أن ننجح في وصفه لأن الدقة تقرب العلاج وعدم الدقة تبعده عنا.
في خضم ذلك يعرف المرء أن الأبطال هم أيضا يعيشون الرعب، ولاسيما إذا كان مقبلا من مجاهل الغياب. وسيعلم أن كل رعب هو خيالي وأن الواقع الذي يؤرقنا هو ترياقه. هكذا قال سبونفيل Sponville وهو يدعونا إلى أن نحارب رعب الخيال بمصل الحياة.
تصور أنه في مكان ما في هذا الكون إنسان غريب عن الأرض، التي هو فيها وتعلم بالجهد أن يتكلم لسان أصحابها، إنه يحتاج كي يصف حالة نفسية إلى خزان معجمي مناسب، سيجهد نفسه كثيرا وهو يبحث عن الكلمات المناسبة التي تكون دقيقة، وسيكون كمن يجري وراء طائر يبدأ طيرانه قريبا من الأرض ثم يباعد ويقارب. هناك أسئلة حارقة في هذا السياق تعني اللساني، ولا أعتقد أن لديه الأجوبة الكافية. أولها: هل يدرك هذا الناطق بلسان غير لسانه الأم ما يدور في ذهنه بأدوات اللغة الأم، أم بأدوات اللغة الأجنبية؟ وكيف يعمل الانتقال التصوري والتمثلي بين اللغتين، لمن يشكو عطبا ما في العصيبات أو النواقل العصبية؟ سيشكو ذلك الغريب لأخيه ابن جلدته اللغوية أحواله باللغة التي لن يجد عسرا في تركيبها، لغته الأم لكن من يستمع إليه سيجد عسرا في فهمها وفي الرد عليه. ماذا سيقول له: كلمات للمواساة، أو مركبات عامة من التشجيع الذي يعتقده المستمع مفيدا وهو لا يفيد. ستكون الكلمات العادية والجمل المألوفة غريبة في مجاهل مقامية لا يعرف المتكلم أهي مناسبة أم غير مناسبة، لماذا تكون جملٌ صالحة وأخرى غير صالحة، لماذا تكون أقوال مريحة للنفس، وأخرى مزعجة؛ لماذا تصنع المريحات من الكلمات مراهم، وتصنع الأخرى أشواكا ستمشي عليها أصابع الدماغ وتدميها؟ بين أن يتكلم من له عطب ما في الدماغ لا يعرفه مع صديقه أو حبيبه أو طبيبه، خلاف كبير، وعلى الذهن المصاب وهو يتكلم أن يجري التعديلات اللازمة على الخطاب، فينشّط الكلمات المناسبة والتراكيب والقواعد، ويراعي السياقات لكي يشكو أو يصف أو يطلب العون، وهو يصف الوضعية الواحدة من زاويا متعددة. ليست اللغة وهي تصف عالما غير مرئي محايدة؛ فهي تصف ما لا يعلم من عطب وتريد أن يعلمه القريب قبل الغريب والحبيب قبل الطبيب لكن الأبواب اللغوية التي لا تنسد تظل في سياقين مهمين: الفهم والعلاج.
حين تقول لمن يشكو هوسا وخوفا مبالغا فيه، من وهم لا عليك سوف تمر أو تقول: سوف تعود إلى حالك، أنت لا تدري وأنت تقول ذلك هل أنت تقوي المريض، أم المرض؟ ومن تخاطب وقتها؟ أتخاطب من يحتاجك أن تكون مداويا أنت القريب، أم تخاطب الذهن المتنطع وكأنك تدفعه إلى أن يتمرد على صاحبه المتعب، ويمضي في سبيل غيه فيصنع الوهم لديه؟ أذهاننا معامل أوهام أحيانا تعطينا الفكرة ونقيضها في آن واحد، ونحن نصدقها فنخاصم أنفسنا أو نجعل أفكارنا تتصارع وندفع نحن الثمن. ربما نقل المرء ذلك إلى طبيبه الحكيم، وربما نبهه إلى أمر أردته محمودا فكان مذموما. نحن المتكلمين نحتاج دربة على لغة المجاهل البعيدة في الذهن، حاجتنا إلى الدربة في لغة المجاهل البعيدة في العوالم غير المرئية.
يمكن أن تكون متدينا وتجيب من سألك ممن يشكون ضيقا ومعسرة، ومن تتجمع الدنيا عندهم بأسرها في مضيق إبرة، أن تقول مستشهدا بقوله تعإلى في سورة الرعد (لَهُ مُعَقبَاتٌ من بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱلله،ِ إن ٱللهَ لاَ يُغَيرُ مَا بِقَوْمٍ حَتىٰ يُغَيرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) سيحتاج أن تشرح له الآية وسيجيبه معتمدا على تفسير ابن عاشور، الذي يقول إن المراد «ملائكة معقبات. والواحد معقب… والمعنى يراقبون كل أحد في أحواله من إسرار وإعلان، وسكون وحركة، أي في أحوال ذلك.. مستعملا في معنى الإحاطة من الجهات كلها. وقوله «من أمر الله» صفة (معقبات) أي جماعات من جند الله وأمره، سوف ينقله النص القرآني وتفسيره، ودائما بواسطة اللغة من عالم غير مرئي هو ذهنه، الذي يتعبه إلى عالم غير مرئي هو عالم الملائكة، التي يرسلها الله من بين يديه ومن خلفه لتعينه. وأن هذا العون الرباني بوسائط ملائكية لن يكون إلا إذا ذهب إمعانا إلى نفسه التي تريد أن تغير ما بها. هذا كلام يريح النفس، وهو غير كلام الطبيب الذي يطلب منه الدواء، وكيف يمكن أن يريح النفس بعلاج ركن مجهول لا يعرفه، إلا هو بخبرته وبعلمه. لغة الطبيب في وصفته مختصرة في اسم الدواء وفي كيفية تناوله؛ بيد أن اللغة العلمية موجزة بطريقتها واللغة الدينية موجزة بطريقتها.
في خضم ذلك يعرف المرء أن الأبطال هم أيضا يعيشون الرعب، ولاسيما إذا كان مقبلا من مجاهل الغياب. وسيعلم أن كل رعب هو خيالي وأن الواقع الذي يؤرقنا هو ترياقه. هكذا قال سبونفيل Sponville وهو يدعونا إلى أن نحارب رعب الخيال بمصل الحياة.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
استاذ اللسانيات في الجامعة التونسية (د توفيق قريرة) نشر عنوان (اللغة والعالم غير المرئي)، ولذلك سؤالي، أين لغة دولة الكيان الصهيوني، بين ما نشره السوداني (د مدى الفاتح) تحت عنوان (الدولة المستحيلة والاستشراق المستحيل) وبين ما نشره المصري (د عمرو حمزاوي) تحت عنوان (في بداية عام جديد… حتمية الربط بين الديمقراطية والتنمية) في نفس عدد جريدة القدس العربي، البريطانية بالذات، خصوصاً وإن كليهما من ثقافة وادي النيل، أحدهم بنكهة فرنسية، والثاني بنكهة بريطانية، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!
ولتوضيح كلامي بمثال رائع، لتشويه سمعة (صدام حسين) من خلال عنوان (الرئيس يكافئ مدير عام الضريبة، على طلب رشوة)
https://youtu.be/FyXeVrerVWY
ولكن عند مشاهدة ما في الرابط، تجده العكس، فمن هنا أساء لمن، أو من هنا أخبث مِن مَن، أو من صعد على أكتاف من، في إعلام دول الحداثة بالنتيجة؟!??
??????