ليس هناك مَن يمْكنه أن يقَلّل من شأن المؤسسة في حياتنا الحديثة والمعاصرة. لا يَمْكن إطلاقا أن نعيد النظر في قيمة وأهمية المؤسسة، لأنها شخصية اعتبارية سائرة نحو الإطلاق بالقدر الذي تتجاوز الإنسان. وقدرتنا على احترام الدين هو دائما بمقدار قدرتنا على التحلي بوصاياه ونصائحه وأحكامه ضمن المؤسسة التي صارت ذاتا لنا في حياتنا المعاصرة، وأصل تخلفنا هو عدم تمسكنا بالله والدين والأخلاق في المؤسسة ذات الشخصية العمومية والاعتبارية.
التقدم والتأخر يقاس بمدى فعالية المؤسسة في المجتمع، ومدى دائمية الدولة وكمالها كمؤسسات سياسية وقضائية، وإدارية وإعلامية، ومالية واجتماعية ودينية.. وبتعبير آخر يتواصل مع المعنى ذاته، أن تُعَبّر مؤسسات الدولة عن المجتمع بكل أبعاده وجوانبه، بحيث لا ينسَ الله والأخلاق والآداب والمِهَنية والاستحقاق الشرعي والمشروعي، كلها تندرج في مجمل واحد هو المؤسسة التي تفصح عن إنسان يحترم الله لأنه ليس ضمن شخصية بشرية وحسب، بل ضمن شخصية اعتبارية ومعنوية وجماعية وعمومية أقوى وأشد. فخاصية الإنسان المعاصر، على ما يحيل إليه التطور المَهول للمؤسسات على اختلافها وتنوع نشاطها وتعدد وظائفها وتقنياتها، أنه إنسان في مؤسسة تتمتع بخاصية أدبية وأخلاقية، وخاصية عمومية، أي انخراطه في الفعل الجماعي والعمومي وهي أفعال لا تظهر فعاليتها وقيمتها وأهميتها، إلا بوعي الإنسان بحقيقة أن الجهد والاجتهاد والنصيب هو دائما ضمن المؤسسة.
المؤسسة شخصية اعتبارية تدلُّ على مرفق له قيمته واعتباره وخطورته أيضا، وعدم تقدير هذا الوضع للمؤسسة هو الذي يفسر لنا سبب تخلف العرب والمسلمين
وعليه، أو هكذا يجب أن نفكر داخل المؤسسة، أن تأخّرنا نحن العرب والمسلمين متأتٍ في شطر كبير منه، من ضعف الأداء وهشاشة في التسيير وقلّة تبَصّر في الصلة التي صارت موجودة بين المؤسسة والإيمان والأخلاق والآداب والواجبات المهنية. فالتأسيس المتواصل وغير المتناهي للمؤسسات في كل الدنيا، يكشف عن فكرة المطلق، ومجالات أخرى ممكنة التصور بالفعل وليس فقط بالتخيل الطوباوي، فلم يعد مصير الإنسان يقدر بما يراه، بل بقدر ما تُحَقّق المؤسسة من إنجازات ناجحة يرضى عنها الله، لأنها حققت ما يرضي المجتمع والناس جميعا، وليس على حسابهما على ما نشهد في عالمنا العربي والإسلامي، حيث تستغل المؤسسات لصالح الأفراد والجماعات ولا تعير كبير أهمية لرضا الله ولا تحسب له أي حساب لا في الدنيا ولا في الآخرة. يبدأ الخطأ في تسيير المؤسسة عند غياب الشرعية والمشروعية كليهما، في عدم كَفاءة من يسيِّر ويدِير المؤسسة باعتبارها شخصية اعتبارية تتجاوز غرض الشخص المدير إلى ما هو أبعد أي تحقيق غرض المجموعة التي تشتغل فيها، وخدمة من تتوجه إليهم ورضا الله في البداية والسياق والنهاية. فواجب المؤسسة ليس كواجب الأفراد، لأن المؤسسة أقوى وأشمل وتعبِّر عن مسؤولية الجماعة أي أقرب إلى الواجب الإلهي. وبتعبير آخر، المؤسسة في نهاية التحليل والمطاف الأخير، خدمة عمومية حتى لو اضطلع بها شخص طبيعي لأن ما يقوم به الفرد ضمن المؤسسة، حاصل مجموع جهود وأعباء قام بها أشخاص آخرون في اللحظة والحيز، وليس فقط مجرد جهد فردي خاص. والواقع، أن ما يضفي الخاصية الاعتبارية على المؤسسة، التي لا تني تتطور وتنمو، هي الأخلاقية والأدبية والعمومية، التي صارت بمعنى واحد في التداول الغربي والشرقي معا، أي الإشارة إلى ما يميز الشخص الطبيعي عن الشخص المعنوي والأدبي والأخلاقي، وكلها مفردات تضع الإنسان في طريق الله، بحيث يجب أن تزداد حدة الوعي والشعور بأنه على صراط مستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، كما جاء واضحا وبينا في سورة الفاتحة.
فالمؤسسة كمجموعة مرافق وخدمات ووظائف تكشف لنا قيمة وأهمية الشخصية التي اكتسبها الإنسان في زمن متقدم اقترب كثيرا من الله، وأن هذه الحالة هي التي يجب أن نحرص عليها نحن كعرب ومسلمين، لأن الخطاب القرآني الموجه للإنسان بما هو جمع لإنس وإنس يحمل الجميع على ضرورة تحقيق سعادة الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة بما تزخر به من عوالم أخرى. المؤسسة شخصية اعتبارية تدلُّ على مرفق له قيمته واعتباره وخطورته أيضا، وعدم تقدير هذا الوضع للمؤسسة هو الذي يفسر لنا سبب تخلف العرب والمسلمين، يظهر ذلك أول ما يظهر في عجزهم عن إرساء وتأسيس دولة ذات مؤسسات منزهة عن الأفراد والأغراض الخاصة، التي تتجاوز العائلة والقبيلة والعشيرة والطائفة، وهذه كلها دوائر اجتماعية تنتمي إلى تاريخ آفل انتهى، ولم يعد من جنس المؤسسة المعاصرة التي تلغي الشخص ولو نوعا من الإلغاء في سبيل تحقيق الإنجاز الجماعي بما هو قدرة وقوة وخير في الدنيا والآخرة. فالإنسان دخل المؤسسة وصار أقرب إلى الله من حيث الوعي بالمحاسبة والشعور بالمسؤولية وما يترتب عليها إن في الدنيا أو الآخرة. عندما نستند إلى فكرة المؤسسة ودورها في حياة الإنسان العربي والمسلم، يسهل علينا معرفة لماذا نعاني القهر والكبت والطغيان والجور والظلم، تظهر خاصة على صعيد نظام الحكم، الذي يعاني إلى اليوم من غياب الشرعية والمشروعية على السواء، بل ساد اللعب بهما عبر لوائح وقرارات وإجراءات وحتى «قوانين» تكرس الفساد كواقع قائم لا يعاقب عليه، ويمكن التستر عليه بزعم أن الشخصية الاعتبارية لا تخضع للحساب والعقاب، وليست في وارد الخطاب الإلهي إلى البشر، لأنها ليست من طبيعة بشرية. والمؤسسة هنا كما تمارس عند العربي والمسلم هي موضع التستر على الفساد ولا مشروعية التصرف ولا شرعية الأداء، يتم الإجهاز على الهيئات والمصالح واللجان والمجالس كافة داخل المؤسسة على ما يحصل إلى اليوم للدولة العربية، وما يحصل أيضا للدين داخل المؤسسات الدينية، التي لم تتمكن من الارتقاء إلى فكرة وواقع المؤسسة المعاصرة، وليس لتبرير أفعال وأقوال لا يرضى بها المجتمع ولا الله، بعد ما وقع تحييد الدين عن فعل الخير المؤسساتي، أي أن تحكيم الضمير والوعي والفؤاد لحظة إنجاز الوظيفة، كما تفرض ذلك المؤسسة العمومية.
ما يكشفه الواقع المر في حياة الإنسان المسلم هو أنه مع زيادة بناء المساجد وكثرة الدعاة، والتطلع إلى زيارة البقاع المقدسة، يزيد طرديا منسوب الفساد ووجوه الظلم وانحراف المؤسسات عن الخدمات المنوط بها في البدء مثل ميلاد الكائن البشري الذي يجب أن يحظى بالشرعية من المهد، والمشروعية عند اللحد أن يموت والجميع راضٍ عنه. والحقيقة أن الربط بين الدين شعائره ومضاربه، والفساد المستشري في مجتمعاتنا ليس ربطا ميكانيكيا وعضويا، بل وقع تحييد الأخلاق والآداب والمهنية والعمومية عن المؤسسات التي أضحت الشخصية الأساسية والحيوية التي تتوقف عليها قيمة الإنسان في الدنيا والآخرة.
كاتب جزائري