(الله يستهزئ بهم)

حجم الخط
2

كان واضحاً أن الدكتور عبد الحليم حفني قد تلقى انتقادات كثيرة على كتابه الأول الذي يتحدث عن أسلوب السخرية في القرآن الكريم، ولذلك قرر أن يبدأ كتابه الثاني عن الموضوع نفسه، بالتأكيد على أنه لن يتعجب إذا استنكر أحد عنوان كتابه أو موضوعه، «فلم يخلُ جيل أو عصر من المستنكرين لنسبة ألفاظ يرونها غير لائقة في نسبتها إلى الله كالسخرية والاستهزاء»، مشيراً إلى رد الإمام الزمخشري في تفسيره «الكشاف» على من قالوا بأنه لا يجوز نسبة فعل الاستهزاء والسخرية إلى الله «لأنه متعالٍ عن القبيح»، مع أنه «قد كثر التهكم في كلام الله تعالى بالكفرة، والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم، والدلالة على أن مذاهبهم حقيقةٌ بأن يسخر منها الساخرون ويضحك الضاحكون»، ثم يضيف إلى رد الزمخشري على هؤلاء المتنطعين، أن الذين يستنكرون نسبة هذه الألفاظ إلى الله تعالى يتجاهلون ورودها في قوله تعالى «سخر الله منهم»، وقوله «الله يستهزئ بهم»، مشيراً إلى إشكالية أن أغلب المفسرين كانوا يتحاشون شرح المعنى الساخر الذي يورده القرآن أحياناً، ويتجنبون وصفه بأنه سخرية، فيظل المعنى الحقيقي غير واضح لقرائهم، وهو ما دفعه إلى كتابة كتابيه لاستدراك هذا النقص، والتأكيد على أهمية أسلوب السخرية في القرآن سواء من حيث أهدافه الدينية أو صياغته الفنية.
في الكتابين الكثير مما يمكن الاختلاف معه، خصوصاً حين يخرج الكاتب عن موضوعهما، ليوجه ضربات طائشة إلى من يختلف معهم فكرياً، أو حين يغفل وضع الأحداث في سياقها التاريخي، لكن أهم ما فيهما تقصيهما الشامل لكافة مواضع السخرية في القرآن الكريم، ليرى حفني أن سخرية القرآن حينما تتجه إلى عدو فإنها تراعي طبيعة ذاته ونوع نفسيته، وحينئذ تكون أدق في إصابة الهدف، بعد أن حددت نقطة الضعف التي تسهل منها إصابة العدو، وأهم من ذلك أن يشعر العدو أن هذه السخرية صادرة من عليم بطبعه ودخيلة نفسه، ما يجعل للسخرية حينئذ وقعاً بليغاً، ويضرب مثلا لذلك بما حدث لأم جميل بنت حرب زوج أبي لهب، حين سمعت ما نزل فيها من القرآن من سورة المسد، في قوله تعالى «وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد» فجن جنونها وأخذت حجراً، وذهبت تلتمس النبي صلى الله عليه وسلم لتضربه به، وهي تقول: والله لو وجدته لضربت بهذا الحجر فاه، أما والله إني لشاعرة ولأهجونه كما هجاني، ثم قالت في ما ظنت أنه الرد المفحم: «مذمّما عصينا.. وأمره أبينا.. ودينه قلينا».
يشير حفني إلى أن الذين أصابتهم سخرية القرآن كأفراد، حتى لو لم يتم تحديد أسمائهم، كانوا كلهم من سادة القوم الذين لا يجرؤ أحد عادة على أن يهجوهم، لأن هجاءهم مساس شديد بسيادتهم على عشائرهم وأتباعهم، وحين يستعرض على سبيل المثال آيات «ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم، إن كان ذا مال وبنين)، والتي قيل إنها نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال آخرون في الأخنس بن شريق الثقفي، يؤكد إن هجوم القرآن على أي منهما لم يكن مهتماً بذاتهما، وإنما بكونهما هما وأمثالهما يسيطران على عدد عظيم من سواد الناس، يرون فيهما شيئاً كبيراً محاطاً بهالة كبيرة من الجلال والمهابة، ولا يرون فيه عادة شيئاً غير ذلك، ومن هذه الزاوية يكون انقيادهم لهذا الزعيم، وعدم تفكيرهم في نقده. ومن هنا تأتي كما يقول الكاتب أهمية سخرية القرآن من هذا الزعيم، لأنها موجهة لأتباعه وليست له، لكي يبصر أتباعه حقيقته، وينتقلوا من مرحلة الاتباع الغافل إلى مرحلة النقد والتفكير، ولذلك بدأ القرآن الكريم حديثه في هذا الموضع بقوله: «ولا تطع»، أما التركيز على وصف «زنيم» فقد جاء استفادة من وضع اجتماعي هو الاعتداد بالنسب لصالح الإسلام، «ولو كان هذا الزعيم في مجتمع لا يولي النسب هذه الأهمية، لما ساق القرآن هذه الصفة رغم أنها حقيقية، ومن ذلك يتبين فارق كبير بين الهجاء وسخرية القرآن في مثل هذا المجال، فالهجاء حين يرمي شخصا بمثل هذه الصفة لا يهدف إلا إلى مجرد السب والقذف للحط من شأن المهجو، لكن القرآن لا يهدف إلى شيء من ذلك، وإنما يهدف إلى إزالة هذا الشخص من وقوفه في طريق انتشار الدين، داعياً إلى الإعراض عنه».
في مواضع متفرقة من كتابيه يتأمل حفني كيف اقترنت سخرية القرآن الكريم بالدعوة إلى التفكير واستعمال العقول والمحاججة المنطقية، واعتمادها على التصوير الموضوعي، وكيف أن القرآن في الوقت نفسه لا يتجاهل سخرية أعدائه، بل يورد نماذج منها قبل أن يسخر منها، مثل إيراده لسخرية الكفار بالبعث وإنكارهم أن تكون للميت حياة أخرى، قبل أن يرد القرآن عليها بأسلوبها نفسه «أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد»، وحين يسوق دعوى القائلين بأن الملائكة إناث، لا يرد عليها بشكل صريح، مفترضاً أن الرد مفهوم ضمناً، بل يسأل مجرد سؤال يحمل غاية التهكم وهو «أشهدوا خلقهم؟»، وحين ينكر أعداء الرسول عليه النصر في الدنيا والآخرة، يرد عليهم القرآن فلا يناقش موضوع نصر الله لرسوله، لأنه أمر مقضي لا يحتاج إلى جدال، وإنما يرد عليهم بصورة بالغة السخرية: من كان يشك في نصر الله لرسوله ويغيظه ذلك، فليرفع حبلاً يعلقه في مكان عال، ثم ليخنق نفسه بهذا الحبل ليموت فيذهب عنه الغيظ، أو لينظر بعد موته أذهب عنه الغيظ أم لم يذهب، (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ).
يشير المؤلف إلى أن القرآن هاجم الكفار بأساليب ساخرة عديدة، منها أسلوب الاستنكار العادي، وأسلوب التسفيه لمواقفهم وسلوكهم، وأسلوب القصة التي تحكي مواقف منكرة تماثل مواقفهم، وكلها أساليب يتدبرها ويقف عند مضمونها المؤمنون بالقرآن، أما حين يصاغ الهجوم على الكفار في صورة سخرية، «فإن انتشار هذه السخرية والحرص على سماعها وتناقلها سيكون على وجه اليقين أوسع كماً وأعمق كيفاً من أي أسلوب آخر، بل أن كثيراً من أعداء الله أنفسهم سيحرصون على سماع هذه السخرية لطرافتها، ثم إن الذي يسمع الهجاء العادي والشتم يمل سماعه مرة أخرى، بينما لا يمل تكرار سماع طرائف السخريات»، وهو ما يمتد أيضاً إلى مواضع عبّر فيها القرآن عن بغضه لبعض السلوكيات مثل الغرور والتعالي، فاستخدم أسلوباً ساخراً على لسان لقمان وهو يوصي ابنه «ولا تصعر خدك للناس»، وهي سخرية مرتبطة بصورة الصّعر الذي يعرفه العرب كمرض من أمراض الإبل، يصيب العنق منها فيجعله معوجاً بحيث يمشي البعير المصاب به، صدره إلى أمام وعنقه إلى جهة أخرى، فيرسم القرآن هذه الصورة للمتكبر المتعالي الذي يمشي معوج العنق، مشيحاً بوجهه عن الناس، لتجيء هذه الصورة الساخرة موجهة أيضاً للمستضعفين الذين يؤلمهم تعالي وغطرسة المستكبرين.
….
ـ «أسلوب السخرية في القرآن الكريم» ـ عبد الحليم حفني ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978
«التصوير الساخر في القرآن الكريم» ـ عبد الحليم حفني ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992

٭ كاتب مصري

(الله يستهزئ بهم)

بلال فضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول يحيى - مصر:

    مقالة شيقة، وجهد مشكور فى عرض الكتاب. بارك الله فيك

  2. يقول عمر /امريكا:

    مقالة متميزة عرضت فى وقت مناسب ،والحقيقة ان الاستاذ بلال ينعم بحس الناقد وفن العرض فى اختيار الموضوع، يساعده فى ذلك وجوده فى مناخ حر يبعده عن مقص الرقيب

إشترك في قائمتنا البريدية