قد يبدو الحديث عن الليبرالية الجديدة ساحرا، ومثيرا لسجال الأفكار المتقاطعة، لكنه بالمقابل سيكون نسقا لمكبوتات تتعالق مع»سيميائيات» الصراع، والقسوة، والسيطرة، وهو ما يجعل من مجالها المفهومي منطقة فخاخ، على مستوى سوء الفهم، أو على مستوى الممارسة الأيديولوجية التي تفرضها هذه الليبرالية، التي كثيرا ما يتورط فيها مثقفون لهم نزعات ثقافية راديكالية أو ثورية، وعبر مواقف تتغالى فيها الفردية المتوحشة، والسلطة التي تقوم على ثنائية الانتصار والربح الدائمين.
وهذا ما يجعل خطورة خطابها الأيديولوجي مثارا دائما للقلق، ولإثارة الفزع، إذ يتحول إلى خطاب في إشهار فكرة السيطرة والتفوق، وفي الترويج لممارسةٍ يختلط فيها الاستهلاكي مع الشعبوي، مع كثيرٍ من الحمق الذي يدفع إلى سوء الاستعمال، وسوء التأويل، وإلى مزيد من المنافسة غير المُسيطَر عليها، وحتى إلى الصراعات والحروب، لاسيما وأنّ مثل هذه الليبرالية ستكون وبالا على الديمقراطية، وعلى أخلاقيات الاجتماع السياسي والثقافي، لأن الليبرالية الجديدة ـ هنا- لا تعني سوى حرية القوة والاستحواذ التي يمكن أن يستخدمها الفرد، أو الجماعة المؤدلجة، مثلما تعني حرية مؤسلبة في صناعة الاستبداد، التي قد تجلبها الثروة، وأن السلطة لا تكون في هذا السياق، إلّا وجها من وجوه الرأسمال الذي يرهن وجوده بالسيطرة على السوق والأفراد والمؤسسات، وبالتأطير الاستعمالي العمومي لمنصات العمل، ولمفاهيم العدالة والحقوق.
وبقدر ما تدفع هذه الليبرالية إلى الترويج لمغامرة الافتراس والانتهاك، فإنها تدفع باتجاه «التذويب» و»التضليل»، حيث يكون الفرد والجماعة جزءا من النسق، وأن صراعهم مع الآخرين، بما فيهم السلطة لن يكون حقوقيا ولا طبقيا، لأنّ الجهة الاقتصادية في هذا الأمر، ستقوم على أساس الخضوع إلى «النظام» الذي يعني سيطرة رأس المال، وأن حرية التجارة التي تقوم على المنافسة والامتلاك، ستدفع باتجاه تشويه فكرة الحق في توزيع العدالة، على أساس أنها فكرة اشتراكية طوباوية، مقابل ما تقوم به الليبرالية من تضخيم وتهويل لحرية الاستهلاك، وهو ما يُبرر امتلاك رأس المال القوة للسيطرة على السوق، وعلى الثروة والدعاية، وحتى على إباحة أيديولوجيا العنف، وأن صفة الفاعلية فيها تنطلق من اتساقها مع النظام العالمي الجديد، الذي تمثّل العولمة جوهره وقوته، وعبر توسيع فكرة سيطرة الشركات العابرة للقارات، لكي تكون أكثر قوة وتغولا، وأكثر استحواذا على الجغرافيا، وعلى الثروات والأسواق، وعلى المشاريع الاستراتيجية في هذه الدولة، أو تلك.
السوق المحلية والهيمنة
ملامح الليبرالية الجديدة، قد لا تختلف عما أشيع في النمط الليبرالي القديم، لكنها تختلف في تمثيلها للقوة الناعمة، ولما يجعلها أكثر انحيازا للفردنة، ولنزعة «مابعد الحداثة» حيث تقويض السرديات القديمة، والسرديات المحلية بشكلٍ خاص، حيث فرضية التشظي، وفقدان الثقة بالهوية والجماعة الساردة، فتمثيلها وتماهيها سيكون عبر ما يفرضه خطاب التفكير الرأسمالي، وهو الذي سيحددها، ويجعل من قوتها قابلة للتسويق العمومي، لأنها ستحتاج إلى سوق غير محلي، وإلى بيئة ثقافية واقتصادية، وأن أي محاولها للرفض سيجعلها تصطدم بالقوة، وبالهيمنة، والنظام والإشهار والحاجة إلى الحماية والقروض الدولية.
أدوات الفصل المادي والحواجز حاضرة في تبرير العزل الجندري والعنصري، كما في نظام الأبارتيد سابقا، حيث تبدو السلطة حاضرة دائما للتعبير عن تلك القوة، عبر تسويغ نظام ملكيتها للأرض والعبيد، وعبر قوانينها الجائرة.
علاقة الليبرالية بالحاضنة الرأسمالية هي علاقة براغماتية وتوالدية، وهذا ما جعلها تكتسب كل قيم ومظاهر تلك الرأسمالية، بما فيها مظاهر «الاحتكار والعنف النسقي»، التي كثيرا ما تتحول إلى مظاهر في العنف الاجتماعي، وفي الممارسة السياسية، حيث تعمل على فرض سلطتها، على شركات الإنتاج والمؤسسات، والأسواق، فضلا عن فرض سلطتها المؤسسات على الدول المُستعمَرة والتابعة، وعبر فرض شروط وسياقات أمنية وسياسية واقتصادية وجيوبوليتكية، وكذلك عبر إدخالها في سياق المدينويات الكبرى، التي تعني في جوهرها استلابا وفرضا لتلك التابعية، وهذا ما يجعل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حريصين على تبنّي أهداف الليبرالية الجديدة، لأنها تسعى إلى تقليص الأنفاق على الخدمات الاجتماعية، وعلى خصخصة البنوك والصناعات الحيوية، وعلى مركزة الثروة بيد جماعات وشركات متنفذة، فضلا عن دورها في الترويج لهيمنة السوق مقابل تقويض الهيمنة الحكومية والنقابية.
هذه الأهداف تسعى إلى تخريب السوق المحلية، والبنى الاجتماعية والاقتصادية لكثير من القطاعات والشرائح، وفرض الهيمنة، بوصفها قوة إشباعية وقوة رمزية، أو تطرح نفسها بوصفها قوة عنفية تبرر مواجهة قوى ضدية، وأحسب أن الأنموذج الأمريكي في تشيلي، وفي الأرجنتين وفي فنزويلا يمثل الوجه الليبرالي، الذي يسوّق أوهام الديمقراطية والحرية..
عنف الليبرالية والتاريخ
الحديث عن الليبرالية الجديدة، ليس بالضرورة حديثا عن التنوير والحداثة، وعن قيم الحرية، فكلّ هذه المظاهر تملك ضدا نوعيا في تاريخ أوروبا، الذي فرض أنماطا من السيطرة والرعب والحروب، وعلى القهر الاجتماعي والجندري، وأحسب أن ميشيل فوكو كان من أكثر فلاسفة أوروبا حضورا في التعاطي مع أزمة التاريخ والسلطة، ومع قوتها العقابية، ففوكو اعتمد على نقد تاريخ أوروبا الوسطى، بوصفه المسؤول عن صناعة ظاهرة السلطة كعنف، عنف مقدس، عنف استعبادي، عنف يقوم على تغييب العقل، وهو ما يمكن أن يكون تأسيسا لظاهرة الاستعمار القديم ولشراسة الرأسمالية الحديثة، وصولا إلى تغول الليبرالية الجديدة، التي اختلطت فيها قيم العنف مع الفردانية و»الحرية العارية»، والسلطة التي تبحث عن هوية وعن مجال للسيطرة والاعتراف.
تعالق عنصرية الليبرالية مع نسق تلك السيطرة، يكشف عن قوة رعب النظام الأمني، عبر صناعة الانقلابات، والصراعات، والتمردات والاحتجاجات، فضلا عن رعب الجندر والأصول والأعراق والألوان والطوائف، الذي سيتجسد عبر علاقة جوهرية بينها وبين قوة الرأسمال والسلطة، وبما يُعطي لهذا التعالق فرضية التعالي والاستعباد، حيث يكون اللون عنصرا للتفوّق، والمال عنصرا للتملك، والقوة عنصرا للسيطرة.
هذا الثالوث يفرض مهيمنه النسقي على الجماعة، وعلى السلطة، وعبر نسق استعبادي، فالآخر هامشي، والأسود عبد، والهندي تابع، وعلى هذا الآخر أن لا يكون منافسا، حتى إن أقرّت الليبرالية ذلك في قاموسها الثقافي، لأن المنافسة ستكون غير متكافئة، وذات مرجعيات تسندها السلطة، فهي بيضاء وقوية، وعلى العبد والهامشي أن يخضعا إلى وظيفة الاندماج في العمل والغيتو والهامش الاجتماعي والطبقي، مقابل أن يبحثا عن وظائف بديلة وتعويضية، وهي أشكال غير ضدية لمواجهة الآخر والإيهام بالسيطرة عليه عبر الرياضة والموسيقى والجنس، وحتى عبر الدين، حيث انخراط عدد من الزنوج في الأعمال التبشيرية والكنسية، رغم رفض المجتمع الأبيض لهم، وأحسب أن تجربة مارتن لوثر كنغ مثال عميق الصورة في التعبير عن هذه الازدواجية المعقدة، والذي اشتغلت عليه سرديات السينما الأمريكية المضادة، كما فيلم المخرج الممثل ستيف ماكوين «12 عاما عبد» وفيلم المخرج الممثل نيت باركر «ولادة أمة».
أدوات الفصل المادي والحواجز حاضرة في تبرير العزل الجندري والعنصري، كما في نظام الأبارتيد سابقا، حيث تبدو السلطة حاضرة دائما للتعبير عن تلك القوة، عبر تسويغ نظام ملكيتها للأرض والعبيد، وعبر قوانينها الجائرة، وعبر ما تحمله تلك القوانين من حمولات سيميائية ووجودية، حيث إيهامات الحق الديني، والحق الطبقي، والحق الجنسي، التي اصطنعت لها نظاما صيانيا يقوم على وجود مؤسسات وآليات، وعلى نظام يُحدد العمل والأجور، وعلى شرعنة أدوات الفصل الرمزي الهوياتي والجندري واللوني والقومي والديني.
عقدة السيطرة، وقوة الأنموذج الحاكم هي الفاعل الذي يحرك الأحداث في النظام الرأسمالي، فبقطع النظر عن طبيعة التحولات الحادثة تاريخيا، بدءا من مرحلة النهضة، إلى مرحلة الحداثة، وعبر تصدعات هذه الحداثة بعد الحروب الكونية، وصولا إلى بروز تيارات ما بعد الحداثة والعولمة وليس انتهاء بـ»الليبرالية الجديدة»، فإن النسق المُضمر لهذه التحولات هو الفيصل في تحديد التمظهرات الوجودية للعلاقات الاجتماعية، في شكلها السياسي والاقتصادي والجندري، وأعتقد أن مجتمعا مركبا – وجوديا وجندريا- مثل المجتمع الأمريكي، تبدت فيه أكثر مظاهر العنف بعد حادثة قتل جورج فلويد ذي الأصول الافريقية، إذ تكشفت المظاهر لليبرالية الجديدة، عبر رعب النظام والمؤسسات والخطاب والرقابة والفصل.
٭ كاتب عراقي