الأسئلة الصحافية كثيرة عن، ماذا تفعل في زمن كورونا؟ أقول لا أفعل شيئا. بعد أن تنتهي المكالمة أضحك، لأن هناك ما يشغلني في الكتابة وأكتبه، فكيف أقول لا أفعل شيئا؟ ليس لأنني لا أحب أن أصرح بما أكتبه، خاصة حين يكون عملا إبداعيا، رواية أو قصة، إلا بعد أن انتهي منه. وهي عادة تعودت عليها منذ وقت مبكر، ليس خوفا من لصوص الأفكار والموضوعات، فالأفكار لا تسرق فهي شائعة، ولكن كيف تكتب، هو الموضوع.
الأفكار مثل الاستلاب والنفي لها مئات التجليات في الكتابة، ومثلها أفكار الحب والغدر والفراق، وحتى قلة الأصل، أو النذالة يعني، لكنني لا أصرح لإحساس عندي، وهو لا شك عند كثير من الكتّاب، إن لم يكن كلهم، بقداسة ما تكتب، وضرورة أن تظل في المعبد وحدك معه حتى يُنشر ويصبح سلعة، قد يمدحك عليها الناس، وقد يتجاهلونك أو يقللون من شان عملك، أو يشون بك عند من يستحلون دمك أو يسجنونك. أضحك وأجد التليفون يدق، وهذا يحدث كل يوم، والسؤال هو ماذا ستفعل بعد انتهاء كورونا؟ وأقول لا أعرف بينما أنا أعرف، فما أحتاجه هو أن أمشي ولا ينتهي المشي، حتى لو بلا هدف، حتى تنتهي الكرة الأرضية تحت قدميّ. أضحك أنا لا أعرف، بينما جسدي كله يريد التمرد والانتفاض للخروج بلا هدف. وحين أجلس رغم ضوء النهار حولي، فلقد صارت الشرفة بديلا عن الشارع، أتنقل على الميديا فلا أجد حديثا إلا عن كورونا، فيزداد إحساسي بالعزلة، ليس خوفا، ولكن يبدو لي الحديث في أي شيء آخر لا معنى له. في الشرفة رغم ضوء النهار والهواء العليل للربيع، فلم تحل رياح الخماسين بعد، تنثال عليّ ذكريات لا تبدو واضحة وسط الضوء، فالذكريات تضيء الظلام. أتركها وأعود إلى الميديا، المقهى الكبير، وأرى وجوه من أحببت، ومن لا أهتم، فأنا لا أكره ولم أكره، وإن شملني القرف أحيانا. وقد رأيت لسنوات طوال من بعض الكتّاب مات منهم من مات، ومن عاش فليطل الله في عمره، كل عسف. جميعهم لم أعاتبهم، فشعاري كان ولا يزال العالم واسع فسيح الأرجاء. هم لم يتناولوا أعمالي بالتقليل من شأنها، فهذا لا يزعجني، فكما أنك حر في الكــتابة فالمتلقي حر في رأيه، لكنـــها أعـــــمالي، جعلتهم يبحثون عن كل الســــبل لقطع الأرزاق. جميعهم يتصورون أنني أبله لم أعرف مكائدهم.
القراءة جميلة لكن ليست جبرا، فأنا أقرأ لأنني أشتاق لأن أقرأ، ولا أقرأ لكي أقتل الوقت. صرت أبتعد عن الطرب العربي، الذي كان يقلب الذكريات الشجية، لأنه الآن حتى هذه الذكريات لا تأتي، فكورونا جمدّ المكان والزمان.
الذكريات تنثال في النهار باهتة لأنها بنت الليل، فجيلي قضى لياليه مع أم كلثوم وعبد الحليم ونجاة الصغيرة وغيرهم، كانوا يزيدون من فرحته، ويبكونه على قصص الحب الضائع، أو على ضياع الأحباء من الأهل والأصدقاء. هذه الأغاني وهذا الطرب المليء بالشجن جعل جيلي منذ وقت مبكر يميل إلى الأسى، وكما قلت في إحدى الروايات «يحب على الهواء» متمثلا بقول محمد عبد الوهاب منه لله «وعشق الروح مالوش آخر لكن عشق الجسد فاني». الكتابة كانت تشغل ثلاث ساعات، والقراءة مثلها أو أكثر، لكن أن يتوفر لديك على الأقل خمس عشرة ساعة، فهل صار اليوم ثمانية وأربعين ساعة وأنا لا أعرف؟ أنام متأخرا مع صوت الفجر أو بعده، وأصحو في الحادية عشرة أو بعدها بساعة، وبعد ثلاث أو أربع ساعات أنام ساعة أو بعض ساعة. أنا لا أقرر ذلك، لكنني أصحو ثانية ثلاث ساعات أو أربع ساعات، ثم أنام ساعة وأصحو وتكون هذه الساعة الأخيرة سببا في السهر حتي الفجر، الذي كان يأتي فجأة لأنني مشغول دائما في الليل بالقراءة والكتابة. يخيل لي الآن أن الفجر يأتي كل يومين. ماذا أفعل بالنهار الآن؟ أتنقل إلى الأفلام فأجد أن محطات «بين موفي» المشفرة التي اشترك فيها، كلها صارت حافلة بأفلام القتل والخيال العلمي، ولم أعد أجد بينها أفلاما تاريخية، ونادرا ما أجد فيلم كاوبوي يأخذني من هذا الزمن إلى كيرك دوغلاس وبيرت لانكستر وروبرت ميتشوم وجون واين وغريغوري بيك وغيرهم. الذكريات الحلوة تحتاج إلى باعث لها أو مفجر، والسينما أقرب وأسرع الباعثين، لكنني لا أجد ما كنت أجري وراءه في السينما زمان. لا.. هي موجودة، لكنني لا أراقب القناة كل الوقت، فالتلفزيون في غرفة غير غرفة مكتبي، أتذكره فقط في طريقي إلى دورة المياه. لم أعد أذكر أن حولي في البيت غرفا أخرى. كان ذلك يحدث دائما في الليل، وأنا أكتب بعد أن ينتصف وينام كل من حولي، لكنه صار يحدث الآن في الليل والنهار. جلسة البلكونة ورغم أشجار الشارع القليلة أسمع منها صوت العصافير. صوت أشبه بالسنونو، لكنه يذكرني بأغنية نجاة الصغيرة «ناداني الليل». أغنية عرفتها صدفة منذ سنوات بعيدة وعرفت أن كاتبها هو محمد علي أحمد ابن الاسكندرية، الذي انتقل إلى القاهرة منذ أكثر من ستين سنة عليه رحمة الله. الأغنية الجميلة التي تبدو مثل سنونو يصدح في فضاء خالٍ، تتحدث عن اتساع الليل بالخيال الحلو. الليل يطول بالأمل كما هو في الأغنية، لكن أن ينضم إليه النهار فهذا ظلم للزمان! وضياع للآمال. لكنني أظل أسمع صوت الطيور. كانت الأغنية تحرك الليل حولي بصوت السنونو، نجاة، لكن النهار يجعلني في مكاني لا أذهب ولا أعود. لا في الواقع ولا في الخيال. تأتي الأسئلة بالإجابة نفسها.. لقد تجمدت، والعجيب أنني لا أدرك أنني تجمدت، أي أنني صرت منفيا داخل النفي بفعل عادة خليك بالبيت.
أنا أعرف أن العادات تنفي أصحابها وتستلبهم، فنادرا ما تجد مخبر شرطة لا يتلفت حوله، ولا حدادا لا يرفع صوته بالحديث، رغم إنه خارج الورشة، ولا بائع عرقسوس يمشي غير متراجع بظهره من أثر «قدرة العرقسوس» التي يحملها على بطنه، رغم أنه لا يحمل قدرة العرقسوس! ولا موظفا في مصلحة يستمع إليك باهتمام. النفي والاستلاب الآن جاءا من الجمود في الزمان والمكان. الزمان حولك مثل أمس كل ما فيه عن كورونا، والمكان طبعا لا يتسع.
القراءة جميلة لكن ليست جبرا، فأنا أقرأ لأنني أشتاق لأن أقرأ، ولا أقرأ لكي أقتل الوقت. صرت أبتعد عن الطرب العربي، الذي كان يقلب الذكريات الشجية، لأنه الآن حتى هذه الذكريات لا تأتي، فكورونا جمدّ المكان والزمان. الجميع الآن يتذكرون أزمنة الأوبئة رغم أنهم لم يعيشوها، فكأن كورونا أوقف الزمن عند الأوبئة. الأشجار يتم تقليمها بيد الجنايني، لكن لا يسقط أوراقها إلا الخريف. كم من الأوراق ستسقط ممن أحببنا، وهل ستظل ورقتك في مكانها؟ لهذا لا أعرف من سأقابل بعد الوباء. لا أري إلا خلاء.. حتى ذكرياتي لم يعد يأتي بها ليل أو نهار.
٭ روائي من مصر
“فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ” (الحشر: 2)