في عام 1999، تم عرض فيلم «الماتريكس» Matrix على الصعيد العالمي، وحقق أعلى نسبة مشاهدة وإيرادات، وأثار جدلا. ففكرة الفيلم لم تكن واضحة المعالم، ومفهومة تماماً للمشاهدين، لكن ما تم استيعابه منها هو خلق حياة موازية سهلة وتضاهي الحياة التي طالما عرفناها، بعد انتهاء لون الحياة التي نعرفها على وجه الأرض.
الفيلم كان ضرباً من ضروب الخيال آنذاك؛ حيث تدور أحداثه في نهاية القرن الواحد والعشرين بعد معركة ضارية مع الآلات، التي صارت لها اليد الطولى، ويتحدث عن حبس البشر في عالم «الماتريكس» وهو عالم إلكتروني مواز يضاهي الواقع على شبكة الإنترنت ـ وما يحدث فيه هو عبارة عن الواقع الذي تمت رقمنته، وأما ما يدور في «الماتريكس» من أحداث فقد تم اختيارها لتدور في نهاية القرن العشرين، في حين أن واقع نهاية القرن الواحد والعشرين صار مزرياً.
اعترض الجميع، خاصة رجال الدين على فكرة فيلم «الماتريكس»، وأجزم كل من له صوت على استحالة تحقيق ذلك على أرض الواقع، وإن تحقق لسوف يكون في زمان يبعد كثيراً عن واقعنا الحالي، ومن ثم لا خوف من حدوثه، لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن الماتريكس كان بالفعل وقت عرض الفيلم يتم إعداده لتحميله في وقت أسرع مما يتخيله أي بشر.
فالثورة الرقمية في مستهل القرن الواحد والعشرين، ووسيطها الفعال «الهواتف الذكية»، سهلت إرساء قواعد الماتريكس على أرض الواقع، وجعلت سكان الكرة الأرضية أنفسهم هم من يغزلون جميع خيوطه، بدون أن يدروا أنهم يسيرون وفق خطة محكمة، سبق التخطيط لها منذ أمد بعيد؛ بغية تهميش العنصر البشري، من أجل تعظيم دور الآلة، والعالم الموازي على العالم الحقيقي. فقد صارت جميع العلاقات الإنسانية إلكترونية؛ مشاعر الفرح والحزن يتم التعبير عنها بمجرد رسالة، أو حتى بـ»إيموجي» Emoji في حين أن قسمات الفرد لا تحرك ساكنا. والنتيجة المحتومة هي فتور المشاعر الإنسانية، وسهولة التخلي عنها في أي لحظة، وبالتالي، التخلي عن العلاقات الإنسانية. والأكثر غرابة في ذلك أن مشاعر الحب الرومانسي، بل أيضاً العلاقات الحميمة انتقلت من عالم الواقع للعالم الرقمي؛ فانتقلت العلاقات الحميمية من إطار التقارب الجسدي الحسي، لآخر يسيطر على العقل والتفكير فقط، وبسهولة يمكن فك العلاقة بمجرد حظر الشخص. الغريب في الأمر، أن الإنسان يشعر بالحرمان، والهجران، ويقاسي أيضاً من لوعة الحب، وتدفــــق المشاعر فــــي عالم المشــاعر البشرية المرقمنة، لدرجة تضاهي ما يحدث في الواقع. وقد وصل الأمر إلى تفضيل الكثيرين للعلاقات المرقمنة.
لن تنظر الأجيال القادمة للماتريكس كما نعتبره نحن، فلسوف يكون لدى كل فرد بمثابة العالم المثالي الذي من خلاله يخرج من طبيعته الإنسانية الضيقة، إلى آفاق أخرى بلا حدود تجعله يتخطى طبيعته القاصرة؛ ليتحول لشخص آخر من صنع يديه
وبدون شك، فتح أبواب الدخول لذلك العالم من المشاعر المرقمنة كانت وسائل التواصل الاجتماعي، التي كانت بمثابة النقمة التي حلت على البشرية؛ حيث فرقت بين الأفراد في عالم البشر، في حين جمعت بينهم وبين آخرين في العالم المرقمن.
أضف إلى ذلك، تحويل الوسائل الرقمية من قنوات اتصال ثانوية عند الشروع في مشروع تجاري، أو نشر مجموعة من الأفكار، إلى الوسيلة الرئيسية لجلب فرص العمل، وبث الأخبار، وتطبيع أفكار وأيديولوجيات، حتى لو كانت غريبة، وتسهيل تقبلها على كل المستويات، أي أن العالم المرقمن صار بمثابة «الوسواس الخناس»، الذي قد يحول الأسود إلى أبيض في عيون الناس. ومن ناحية أخرى، انتقل عالم التحريات والتحقيقات من عالم المادة الموجود في عالم البشر، إلى العالم المرقمن؛ فصار يحكم هذا العالم رجال بوليس للقيام بالتحريات، ورجال قضاء للفصل في الأمور، بعد سن قوانين محكمة لضبط مسيرة ما يدور في العالم المرقمن الموازي.
أما الطامة الكبرى فهي تغلغل الرقمنة في الأسرة وتكوينها، حتى صارت واقعاً آخر يحاكي دقائق الواقع المادي، علماً بأنه يصعب الخروج منه؛ لأنه بات جزءا أصيلا من مفردات الواقع. فمن خلال الواقع المرقمن تم إحياء نظام «الخاطبة»، لكنها «خاطبة مرقمنة». فالخاطبة تتعرف على الفتيات والفتيان، وتتحرى عنهم، وتتقصى ميولهم وطباعهم، من خلال الصفحات الإلكترونية، ولو كان قديما يتم النظر إلى زيجات وصداقات وسائل التواصل الاجتماعي بعين الاستهزاء، وتُنعت بكونها فاشلة، فحالياً، زيجات وصداقات وسائل التواصل الاجتماعي صارت ناجحة، وتوفر على الشخص جهد التعرف على مفردات شريك حياته القادم.
وبالنظر لعالم الأطفال ـ الذي لا يزال يتمسك بتلابيبه العديد من الكبار ـ فقد دخلوا للماتريكس لا محالة من خلال ألعاب الفيديو، التي يتم تحميلها على الهواتف الذكية. فلو تحدثنا عن إحدى ألعاب الفيديو الخاصة بكرة القدم، يلاحظ أن من يلعب هذه اللعبة يكوّن عالما آخر من صنعه. فهو يعمل ويكد من أجل توفير نقود تكفيه لشراء فريق كرة قدم، وإلا لسوف يصير حبيس مرتبة مدرب يتقاضى أجرا، لكن متى توافرت لديه النقود اللازمة، نجده يخرج من عباءة التدريب، ويبدأ في شراء لاعبين ذوي سمعة حسنة، ولهم قسمات وطباع تضاهي قسمات وطباع البشر. وكثير منهم يجيدون التزلف، وآخرون ذوو طباع غاضبة، أو متذمرة، أو شاكية. ولصاحب الفريق القدرة على طرد لاعب من الفريق، أو فصله لأتفه الأسباب، أو بيعه بصفقة لفريق آخر. وهناك العديد من الألعاب التي يتحول فيها الفرد لشخص من صنع أهوائه، فيحظى فيها بشعبية، أو يكون مصيره التنمر عليه من قبل الآخرين. ومن ثم، يمكن لنا الآن فهم تصرفات «نيو» Neo في سلسلة أفلام «الماتريكس»، وما كان يفعله عند الدخول لهذا العالم الموازي. فجميعنا الآن على أعتابه، في انتظار الدخول الكامل في العالم المرقمن ليجنبنا ويلات الحياة المادية التي صارت مستحيلة.
لن تنظر الأجيال القادمة للماتريكس كما نعتبره نحن، فلسوف يكون لدى كل فرد بمثابة العالم المثالي الذي من خلاله يخرج من طبيعته الإنسانية الضيقة، إلى آفاق أخرى بلا حدود تجعله يتخطى طبيعته القاصرة؛ ليتحول لشخص آخر من صنع يديه، لا تفرض عليه الظروف شيئاً يمقته، وله فيه أيضاً القدرة على التحكم في مصيره كيفما شاء. فلو كانت نسبة الانغماس الحالي في العالم المرقمن قد بلغت خمسين في المئة، فمن المتوقع أنه خلال خمس سنوات فقط تزداد تلك النسبة إلى خمس وتسعين في المئة، فينبذ البشر حينئذٍ عالم المادة طواعية، يردفها تدميره شيئاً فشيئاً ليصير خرابا، من جراء أفعال أبناء عالم المادة. لقد صار الماتريكس واقعاً، ما دفع العقلاء إلى أن يفكروا إلى متى سوف يستطيع العالم المادي الصمود أمام الغزو الرقمي؟.
٭ كاتبة من مصر
مع احترامي للكاتبة, إنه ليس غزو رقمي, وإنما هدم قلاع أنظمة اعتادت غسل أدمغة الشعوب وإراهابها بالظالم. إن أول عدو للتطورات الرقمية هو الأجهزة الأمنية التي تنتشر فضائحها حول العالم بسبب الثورة الرقمية. أضحت تسجيلات الفديو والصور الوثائقية تخرج من أقبية المخابرات, ومن أوكار التآمر على الشعوب لتفضح تلك الأجهزة التي كانت تستغل الظلام. من هنا على النخبة الملتصقة بهموم الشعوب أن ترفع راية الثقافة الرقمية خفاقة, رغم بعض المساوئ التي لا تقارن مع عظمة الفوائد. إن العالم على أبواب إعادة هيكلة جميع الأنظمة وبدون اسثناء, وخصوصاً الأجهزة الأمنية التي ترسخ فيها العفونة والأسلوب الدموي منذ زمن ما قبل الثورة الرقمية. ما أجملك أيها الهاتف الذكي لأنك اخترقت قلاع الجهل والظلم والظلام في كل نظام.
الكاتبة تصور العالم الرقمي على أنه عالم شر ؛ مع أنه وفر لها الكثير من الجهود المادية لكتابة مقالها هذا ؛ هذا على سبيل المثال لا الحصر… !!!