عبد الباري عطوانسواء كان قرار السلطات المصرية وقف تصدير الغاز الى اسرائيل سياسيا، او تجاريا، فإنه قرار شجاع يعكس حدوث تغيير كبير في مصر الثورة تجاه العلاقات مع اسرائيل والتطبيع الاقتصادي معها.وهو قرار قد يكون مقدمة لالغاء اتفاقات كامب ديفيد المهينة، او تعديلها بما يتوافق مع المصالح المصرية على الاقل.صحيح ان تصدير الغاز المصري الى اسرائيل غير منصوص عليه في بروتوكولات الاتفاقات المذكورة، ولكن الصحيح ايضا ان اسرائيل فرضت شروطها على الجانب المصري، مثلما فرضت اسعارا متدنية للغاز المصري اقل من سعر التكلفة، وكان امرا مؤسفا ان يقبل النظام المصري المنهار هذه الشروط، في اطار صفقة فساد استفادت منها حفنة من رجال الاعمال يعملون كواجهات لبعض رجالات النظام المعزول.رجال اعمال فلسطينيون تفاوضوا مع الاسرائيليين لتصدير غاز حقل غزة بموازاة خط الانابيب المصري ذهلوا عندما علموا من نظرائهم الاسرائيليين ان الغاز المصري يباع بأسعار تقل عن الثلثين بالنسبة الى اسعاره في الاسواق العالمية، وشعروا بصدمة اكبر عندما ارادت اسرائيل ان تشتري غاز غزة بالسعر نفسه، ولكنها تراجعت في فترة لاحقة وعرضت اسعارا تزيد بمقدار الضعفين على الطرف الفلسطيني، وجرى رفضها لانها اقل من الاسعار في الاسواق العالمية.السفير ابراهيم يسري رفع قضية امام المحكمة المصرية العليا بايقاف تصدير الغاز المصري لاسرائيل، وتكللت جهوده بإصدار حكم لصالحه، ولكن حكومة الرئيس حسني مبارك لم تطبق الحكم القضائي، ولم توقف تصدير الغاز لاسرائيل بالتالي.الشعب المصري يعارض بيع غازه الى الاسرائيليين بأسعار زهيدة، بينما يشتري قوارير الغاز بأسعار مرتفعة للغاية، بل ان البلاد شهدت في الاسابيع الاخيرة ازمة طاحنة لاختفاء الغاز من الاسواق، اي ان الاسرائيليين يتمتعون بالغاز المصري الرخيص بينما يعاني المصريون من انقطاعه عنهم بالكامل.’ ‘ ‘انبوب الغاز المصري الممتد عبر سيناء الى اسرائيل تعرض للتفجير اكثر من 14 مرة في اقل من عام، وفشلت كل المساعي والجهود الحكومية المصرية في حمايته، بما في ذلك حملات الاعتقال المكثفة التي استهدفت قادة القبائل البدوية وبعض الناشطين الشباب فيها، والعروض المالية المغرية التي جاءت بمثابة الجزرة لتجنيد زعماء قبليين وميليشياتهم على امل تأمين الخط المار وسط اراضيهم.افيغدور ليبرمان وزير الخارجية الاسرائيلي وصف قرار الغاء ضخ الغاز الى اسرائيل بأنه مؤشر خطير للغاية لا يبشر بالخير، ولكن ليبرمان الشهير بتهديداته لمصر ونسف سدها العالي كان مثل الحمل الوديع وهو يطلق فتواه التشاؤمية هذه، بينما ابتلع رئيسه بنيامين نتنياهو لسانه وامتنع عن اطلاق تصريحات تصعيدية ضد مصر كرد فعل على هذا القرار.الاسرائيليون يرتعدون خوفا من العملاق المصري الذي خرج من قمقم الاذلال، الى فضاء الكرامة، عبر ثورته المجيدة، لأنهم يدركون جيدا ان اي حكومة مصرية جديدة تنطلق من رحم البرلمان المنتخب وتحظى بدعمه وتأييده لن تقبل بالإملاءات الاسرائيلية والامريكية، على غرار ما كان يفعل النظام السابق الفاسد والديكتاتوري.انتقال مصر من دور الحليف الذليل التابع، مثلما كان عليه الحال في عهد الرئيس حسني مبارك وبطانة الفساد التي كانت تحيط به، الى دور الدولة الرائدة التي تتعاطى مع الاسرائيليين بمبدأ الندية والمعاملة بالمثل والحفاظ على السيادة الوطنية، سيكلف الميزانية الاسرائيلية حوالى ثلاثين مليار دولار اضافية سنويا، بالاضافة الى تغيير استراتيجيتها العسكرية كليا.فعندما يقول ليبرمان ان مصر اخطر من ايران فإن هذا اعتراف مصيب. فمصر هي التي قادت جميع حروب العرب الرسمية ضد اسرائيل، وهي التي عمقت عزلتها الدولية عندما كانت تُحكم من قبل انظمة وطنية تضع الامن القومي المصري فوق كل الاعتبارات الاخرى.وفي الوقت الذي كانت تلتزم فيه حكومة الرئيس مبارك بتنفيذ كل بنود اتفاقات كامب ديفيد، وتغض النظر عن المجازر والحروب الاسرائيلية في قطاع غزة ولبنان، كانت اسرائيل تتآمر على مصر وتعمل على تهديد امنها المائي الاستراتيجي، بتحريض دول مثل اثيوبيا واوغندا على تحويل مياه النيل من خلال اقامة السدود، وتفكيك الاتفاقات الموقعة التي تعطي كلا من مصر والسودان نصيب الاسد من هذه المياه.أليس من العار ان تحرم اسرائيل مصر من ارسال قواتها ودباباتها الى كامل اراضي سيناء بذريعة فرض احترام اتفاقات كامب ديفيد، بينما تعمل هي على غزو قطاع غزة الذي كان خاضعا للحاكم الاداري المصري ساعة احتلاله عام 1967، وتقتل 1400 من ابنائه دون رحمة ودون ان تحرك حكومة مبارك ساكنا، بل تتواطأ مع هذا العدوان من خلال إحكام اغلاق حدود القطاع ومنع اي مساعدات للوصول الى المحاصرين المجوعين داخله، اوالسماح لهم بالنجاة بأرواحهم مثلما تفعل تركيا والاردن ودول اخرى مع اللاجئين السوريين؟هذا القرار الشجاع ما كان سيصدر لولا موافقة المجلس الاعلى للقوات المسلحة المصرية ورئيسه المشير علي حسين طنطاوي الذي اطلق تهديده بكسر رجل كل من يقترب من حدود مصر، في اشارة واضحة الى الاسرائيليين.سبحان مغير الاحوال، المشير طنطاوي يهدد بكسر ارجل الاسرائيليين، بينما كان السيد احمد ابو الغيط وزير خارجية حسني مبارك يهدد بكسر ارجل وايادي ابناء غزة المحاصرين المجوّعين اذا ما تجرأوا على اقتحام الحدود المصرية بحثا عن رغيف خبز او علبة حليب لأطفالهم.’ ‘ ‘مصر تغيرت فعلا، وستتغير اكثر باتجاه استعادة مكانتها الاقليمية والدولية، والفضل في ذلك يعود الى شعبها الشجاع الذي قاوم ولأكثر من ثلاثين عاما كل عمليات التطبيع، ولم يتخلَ مطلقا عن مبادئه الوطنية، وهويته العربية الاسلامية، وكراهيته لاسرائيل ومجازرها وغطرستها ضد اشقائه الفلسطينيين واللبنانيين.الثورة المصرية ما زالت بخير، تحقق الانجاز بعد الآخر، وتفاجئنا يوميا بصمودها وتحديها رغم مؤامرات الفلول وانصارهم في الولايات المتحدة الامريكية، وبعض الدول العربية التي تتآمر لاجهاض الثورات العربية. وخروج مليون انسان يوم الجمعة الماضي للدعوة الى انتقال السلطة الى حكم مدني هو الرد على هؤلاء جميعا ومؤامراتهم.يشعر العرب، وخصوصا المصريين ، بسعادة عامرة وهم يرون حالة الهيستيريا التي تسود اسرائيل حاليا بسبب الخوف من التغيير المتسارع في مصر، بعد ان كانت اسرائيل هي التي تبث الرعب في قلوبنا بغطرستها وتعنتها وتهديداتها المتواصلة للعرب، ونسفها بشكل وقح للعملية السلمية.لا بد ان الولايات المتحدة التي اسـتثمرت الكثــــير من الجهـــد والمال لتعــــزيز مقــاومة اتفاقات كامب ديفيد للرفض الشعبي المصري، ستشعر بقلق اكبر وهي ترى مصر تخرج من تحت عباءة نفوذها تدريجيا. وهو خروج قد ينهي هيمنتها على المنطقة واحتياطاتها النفطية الهائلة ولمصلحة قوى عظمى جديدة صاعدة مثل الصين والهند وروسيا.مصر هي الاكثر تأهيلا لقلب كل معادلات القوة الاستراتيجية في المنطقة، وبما يخلق مشروعا عربيا متكاملا يوحد الأمة، ويحقق التوازن مع المشاريع الاخرى التركية والايرانية والاسرائيلية.اهلا بمصــــر قـــوة رائدة قائدة تقود السفينة العربية الى بر الكرامة والعزة والأمان.Twitter:@abdelbariatwan