الماركسية العلمية عند التوسير… نزعة مضادة للتاريخ والإنسان

حجم الخط
2

اشتغل الكثير من المفكرين والنقاد في المختبر الفلسفي على مشروع ما بعد الماركسية، أو الماركسية الجديدة، لتشذيبها وتخليصها من رواسب الجمود العقائدي والفكري، وإعادة تأسيس البنية الماركسية مرة أخرى، بما يتوافق مع تحولات الزمن وتشكيلات الهيكل الاجتماعي، المحكوم بنمط علاقات الأفراد بوصفهم ذوات منتجة ومستقلة في الوقت نفسه، وليست أدوات منصهرة في الماكنة الأيديولوجية. وهذا ما عملت عليه مدرسة فرانكفورت وروادها في أوروبا، التي بدأت تنظر إلى الماركسية وفقا لمتطلبات المرحلة وشرط الوجود التاريخي لمجتمعات أوروبا بعيدا عن شيوعية الاتحاد السوفييتي وظروف نشأتها المغايرة. منتقدة القداسة التي أعطاها عصر التنوير للعقل، الذي أصبح في ما بعد عقلا أداتيا محكوما بالواقع العملي ومنخرطا من حيث لا يدري في خدمة الطبقة المهيمنة ومصالحها.
لكن كيف يمكن للماركسية أن تتخلص من الأيديولوجيا؟
وكيف يمكن للماركسية أن تدمر الفلسفة، وأن تكون منهجا علميا خالصا وهي التي بدأت مسيرتها من مثالية هيغل، ومن حقل التأمل الفلسفي؟
يعد الفيلسوف والمفكر الفرنسي لويس التوسير (1918-1990) رائدا في إعادة إنتاج نسق جديد من الماركسية، من خلال استخدامه لنظريات فرويد والمنهج البنيوي التحليلي لنصوص ماركس، حيث يصف التوسير قراءة نص ماركس بالقراءة العرضية، وهي القراءة التي تكتشف ما في الخطاب من ثغرات وبياض، أو ما لم يقله الصمت، إنها قراءة تبحث في لاوعي الخطاب مكتشفة بواطنه الخفية، ومفككة ثوابته وتناقضاته. قدم التوسير كتابه «إعادة قراءة رأس المال» عام 1965 محدثا ثورة جديدة لا تقل أهمية عن ثورة ماركس في الفلسفة، حيث يفصل التوسير بين ماركس الشاب المتأثر بمثالية هيغل وفيورباخ، عن ماركس الذي أسس علما حقيقيا في المادية التاريخية، فبدايات ماركس كما يصفها التوسير كانت ذات دوافع أيديولوجية وهيغلية بشكل أساس، أما ماركس المفكر فهو الذي أبدع علما لا فلسفة من خلال تحليله لمكونات الرأسمالية والنظام الرأسمالي، إلا أن التوسير يرفض الحتمية عند ماركس، وكذلك الغائية التاريخية معتبرا أن التاريخ هو عبارة عن سيرورة بلا ذات. ويرى التوسير أن ماركس فكر في الفلسفة الموجودة على نحو ثوري، مدمرا الفلسفة ذاتها فماركس قام بنقد الفلسفة، التي ترعرع في كنفها، وتحرر منها، مطلقا شعاره حول إنهاء الفلسفة، وتأسيس علم تاريخي يتيح وضع نظرية للفلسفة.
لقد قام التوسير بتطبيق نظرية القطائع الأبستمولوجية، في الفصل بين مرحلة ماركس الشاب، الذي كان متأثرا بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ومكتفيا بالتأمل الفلسفي، وماركس الناضج الذي قطع صلته مع ماضيه الأيديولوجي والمثالي، وأصبح واعيا في ضرورة الممارسة العلمية لأصل الأشياء وبنيتها الخفية. وقف التوسير بالضد من روجيه غارودي الذي كان رائدا في إبراز النزعة الإنسانية في فلسفة ماركس، وكان هذا التيار سائدا في فرنسا في حقبة الستينيات والخمسينيات من القرن الماضي، واعتبر هذا الموقف موقفا أيديولوجيا تجاوزه ماركس في فترة نضجه الفكري بعد انخراطه في ممارسة علمية جديدة. اعتبر التوسير أن المرحلة الماركسية الناضجة هي ذات نزعة مضادة للإنسان والتاريخ. لأن ماركس لم ينطلق من الفرد أو من ماهية الإنسان، وإنما انطلق من نمط علاقات الانتاج والبنية الاجتماعية، والفرد هو نتاج لهذا التفاعل الاجتماعي، فالصراع الطبقي هو الذي يصنع التاريخ خارج الإرادة الإنسانية وليست الذات. أعجب الكثير من الفرنسيين بمهارة التوسير البنيوية وتقنيتها العالية في إبراز نصوص ماركس، وإعادة قراءتها، لكنهم تحفظوا على نزعتها اللإنسانية المتطرفة، التي جمدت فيها كل روح حية، وقطعتها عن تراثها بالفلسفة الكلاسكية الألمانية. وبهذا القطع الأبستمولوجي الذي مارسه التوسير يصبح التاريخ كامنا في المفهوم وليس في الإنسان، حيث يتحقق التاريخ خارج إرادة البشر، الذين يتحولون مجرد أدوات مسيرة لعلاقات الإنتاج.

من الممكن أن تكون الفلسفة فناً للحياة ونسقا صالحا لطريقة التفكير، إذا واجهت الفلسفة نفسها أمام التحديات التي تحيط بها، وحررت نفسها من كل شاذ وغريب، وإن تتبنى صفات تجعلها قادرة على الدفاع عن نفسها، أمام سلسلة الانهيارات التي تعصف بالعالم، وإلا ستصبح الفلسفة مجرد تاريخ للفلسفة.

الدولة والأيديولوجيا

يقسم كارل ماركس المجتمع إلى بنيتين رئيسيتين وهما: البنية التحتية (القاعدة أو الأساس) وتشمل الاقتصاد والصناعات والتجارة، إلخ. والبنية الفوقية وهي التي تشمل المؤسسات الثقافية والسياسية والعسكرية والدينية، ويرى أن شكل البنية التحتية هو الذي يحدد شكل البنية الفوقية والعلاقات الاجتماعية، وكل التمظهرات الأخرى في الحياة المدنية. بالرجوع إلى مفهوم الدولة عند ماركس وأنجلز، يحلل التوسير هاتين البنيتين الرئيسيتين، ويرى إنه لا يوجد أي شرط أو قانون يحكم تأثير النمط الاقتصادي على شكل البنية الفوقية وعلاقاتها، إذ يرى أن الدولة عند ماركس وأنجلز عبارة عن جهاز قمعي يحافظ على هيمنة الطبقة البورجوازية، ويسيطر على طبقة البروليتاريا، بحيث إنها تستمر في الإنتاج وتستمر عملية إعادة شروط الإنتاج، وبالتالي وفقا لهذا المفهوم يستمر النظام الرأسمالي في مواقعه المسيطرة. وإن الدولة كي تحافظ على بقائها، فإنها ترسخ وجودها من خلال الأجهزة القمعية والأجهزة الأيديولوجية، وتشمل الأجهزة القمعية: الجيش والشرطة والسجون والمؤسسات الأمنية، أما الأجهزة الأيديولوجية، فهي عبارة عن المدرسة والأسرة ودور العبادة، ووسائل الإعلام، التي تشمل الصحف والتلفزيون والراديو، ويمكننا في وقتنا الراهن أن نضيف إليها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
إن الأيديولوجيا بنظر التوسير متغلغلة في المجتمع، وتحكم شكل حياة الفرد ونمط معيشته، وطريقته في التفكير والتعبير عن آرائه، وكذلك تحكم نمط العلاقات الاجتماعية في محيطه. إن الأيديولوجيا عند التوسير منظومة من السلطة المتعالية تنتجها الدولة من خلال أجهزتها، للحفاظ على بقائها ومصالح الطبقة البورجوازية فيها، فهذه الأيديولوجيا التي تسري في أوردة المجتمع وتتلاعب بالفرد، وطريقة سلوكه هي عبارة عن عنف ناعم مهمته الأساسية برمجة الإنسان الواعي وتشكيل هويته، بما لا يتعارض مع أمن الدولة وبقائها، بحيث يترسخ نوع من فعل الإخضاع لهذه الأيدولوجيا في اللاوعي، ويسميه التوسير بالاستجواب والتأثير ويضرب مثالا لشرطي في حال منادته لك، فإنك في حالة الالتفات ستكون جزءا من منظومة قانونية وأيديولوجية متكاملة حددت وضعك في المجتمع وفي تلك المنظومة.

تدمير الفلسفة

يرى التوسير أن الفلسفة تقدم لنا نفسها في صورة مفارقة غير معهودة، فجميع الفلسفات تشترك بعدد من السمات الجوهرية، التي تتعلق بطبيعة لغتها وبالعلاقة النسقية القائمة في مكوناتها المجردة ومقولاتها، ومقولتي الأصل والغاية تشكلان زوجا متكاملا لجميع الفلسفات المثالية، التي هي سيرورة تسعى إلى غاية وقصد.
والفلسفة في نظر التوسير ليست علما، ولا موضوع لها سوى ذاتها؛ لأنها لا تطرح مسائل كما تفعل العلوم، ولا تجد حلولا للمسائل كما في العلوم، بل إن الفلسفة ممارسة مختلفة، تطرح أسئلة وتجد لها إجابات، دون أن تكون هذه الإجابات كالمعارف العلمية، عكس العلم الذي يقال إن له موضوعه. فالفلسفة تطرح أسئلة من داخل نفسها وتأتي لها بإجابات نعرفها، وتكون هذه الإجابات على شكل إطروحات ليس لها علاقة مباشرة بالمعرفة العلمية، والأطروحة فكرة أولية يصعب تعريفها، لذلك الفلسفة لا تنتج معارف ولا تساهم في إثراء الفكر البشري. ويصف التوسير الحمولات الفلسفية التي جاء بها الفلاسفة، ما هي إلا أشكال متنوعة من التكرار الفني المنظم وأدبيات رديئة لأصحابها. والفلسفة ليست بريئة أيضا في نظر التوسير لأن دورها يكمن في الحفاظ على النظام القائم أو إسقاطه، لذلك فهي تكتسي بطابع سياسي دائما، فكل نص فلسفي هو في نهاية المطاف تدخل سياسي في النظرية، فلم تكن الفلسفة يوما ما تأملا خالصا أو منزها عن أي غاية للتدخل في مجرى الأحداث، رغم ادعاء الفلاسفة بأنهم نزهاء ومحايدون، وعلى الرغم مما يبذلونه من جهد في تسويق النظريات والتلاعب الجمالي بالألفاظ والكلمات.
أما تاريخ الفلسفة عند التوسير فهو تاريخ هيمنة، تاريخ من الصراعات بين المذاهب الفلسفية التي لا تتوقف، والسبب في ذلك وجود خيوط تربطه بالصراع السياسي القائم في المجتمع.

هل التفلسف ممكن لأي شخص؟

يوضح التوسير أن التفلسف صعب جدا، دون تحضير مسبق، فهو يضاهي تعلم المشي في صعوبته، وأهم هذه الصعوبات هو اللغة الفلسفية، أو ما يسميها ماركس الرطانة الفلسفية، لذا يقترح التوسير هنا محاولة حمل الفيلسوف على الكلام، أو رؤية كيف يظهر خطاب الفيلسوف، كيف يثبت لنا هذا الفيلسوف أن الفلسفة ما هي إلا علم المسائل المحلولة التي تأتيها من الخارج؟ من الممكن أن تكون الفلسفة فناً للحياة ونسقا صالحا لطريقة التفكير، إذا واجهت الفلسفة نفسها أمام التحديات التي تحيط بها، وحررت نفسها من كل شاذ وغريب، وإن تتبنى صفات تجعلها قادرة على الدفاع عن نفسها، أمام سلسلة الانهيارات التي تعصف بالعالم، وإلا ستصبح الفلسفة مجرد تاريخ للفلسفة. يقول غرامشي.. إن كل إنسان هو فيلسوف له تصوراته وأفكاره عن هذا العالم، وطريقة معيشته الخاصة. إن مواجهة كهذه صعبة ومصيرية أمام الفلاسفة أنفسهم، فمن من الفلاسفة سيحمل المطرقة، ويبدأ بهدم هذه الحصون المعرفية، ويقيم على أنقاضها البناء الثوري الجديد؟ تماما مثلما حاول ماركس أن يدمر الفلسفة عندما كانت تبدو في أكثر حالتها نبضا بالحياة.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عاطف - فلسطين:

    رائع.
    قرأت كل كلمه واعدت قرائتها.

  2. يقول عادل عقة:

    ما من شك أن الخوض في الفلسفة الماركسية سيفضي بنا إلى إثارة ثلاثة إشكالات كبرى أرقت الماركسيين بشتى تلويناتهم.
    الإشكال الأول:هل كان ماركس فعلا ماركسيا؟
    الإشكال الثاني:كيف نميز في كتابات ماركس ما بين كتابات مرحلة الشباب و مرحلة النضج؟مرحلة الشباب حيث اصطبغت الايديولوجيا بمفاهيم التزييف و التبرير و الادماج.و بوصفها تعبيرا لوعي زائف.و بين كتابات مرحلة النضج حيث أضحى ماركس أكثر واقعية و استحال الباراديغم الماركسي إلى براكسيس أو ممارسة إجرائية.أي كيف نفصل لدى ماركس بين التراجعات و المراجعات على مستوى التأصيل النظري للفكرة الماركسي؟
    الإشكال الثالث:هل الماركسية المحدثة أو نيو ماركسية تحيين للماركسية الأم على ضوء التحولات الفكرية و الاستراتيجية لما بعد الحرب الباردة كما وضع أسسها كارل ماركس و فريدريك انجلز من زاوية التجديد أم تقويم لها من زاوية إصلاح و ترميم أخطاء الميلاد و هفوات النشأة.

إشترك في قائمتنا البريدية