لما كنت لا أملك رفاهية العيش في برجٍ عاجي، لاسيما وأن الحظ أو القدر أسعداني بأن أولد في هذه البقعة المباركة من العالم المبتلاة بالطغاة والمعتقلات والأحلام الموؤدة والآمال المحبطة والأعمار والأجيال الضائعة والطاقات المهدرة والحروب الخاسرة والدماء الغزيرة، فإنني بالقدر ذاته لا أستطيع أن أترفع أو أتجاهل المعارك الصغيرة التي تنشأ بصورةٍ متواترة على خلفية تلك السردية الكبيرة والأساسية من الثورة المغدورة والثورة المضادة التي نعيشها.
لست أملك أن أتجاهل الجدل الذي أثارته مقابلة السيسي في برنامج «60 دقيقة» الأشهر والذي ما أكثر ما أحرج من الرؤساء والملوك شرقاً وغرباً. لعل أول الملاحظ في الجدل الدائر حول اللقاء بين معارضي السيسي ومجاذيبه هو درجة التمترس التي يلتزم بها كل فريق، ما يدل على استحكام الصراع وعمق الشقاق الذي يضرب المجتمع، فكلٌ يرى في أي موقفٍ وأي حديثٍ أو تصريحٍ ما يعضد موقفه ويقوي حجته، ما يحيل الجدل إلى حوار طرشانٍ ممتدٍ وعبثي، ولا بد من الاعتراف بتفهمي لموقف معارضي السيسي وإحباطاتهم على اختلاف أطيافهم بوجهٍ أخص، إذ عبثاً يبحثون عما يثبتون به وجهة نظرهم لخصومهم، غير مدركين لا جدوى محاولاتهم، فالذين وجدوا له المبررات في بيع جزيرتين وبحورٍ من الدماء لن تفحمهم مقابلة متلفزة، والجنرال «مؤامرة» سيسعفهم لتبرير وتمرير أي شيء، وكالعادة سيخرج السيسي بطلاً قومياً مغواراً منتصراً في العالم الافتراضي الموازي، الذي يعيشون فيه، ساحقين المؤامرات المتربصة تحت كل ذرة رمال ويأسرون فيه قائد الأسطول السادس الأمريكي.
لكن في ما يخص المقابلة فبالتأكيد هناك الكثير ليقال، منه ما يتعلق بأداء السيسي وردوده وما يتعلق بالضجة المحيطة بها والتأثير الناشئ عنها والآثار المترتبة عليها.
بداية، لم تكن المشكلة في رأيي في طريقة كلامه بصورةٍ خاصة، فأنا عن نفسي لم أره مهزوزاً أو منهزماً، على العكس من ذلك فقد كان يدلي بآرائه وردوده المعتادة. ربما لم يعجبني كلامه، وربما أثار غضبي ومرارتي، وسخريتي أحياناً، إلا أن ذلك لا ينفي أنه لم يكن متلعثماً ولم يصمت. لكن الأكيد أنه بدا متوتراً مشدوداً، فهو الذي يخرج له إعلامه شبه المملوك تماماً لأجهزة أمن النظام مقابلاتٍ تبرزه (قدر ما يتيحه نسيجه الشخصي) فاهماً عليماً واثقاً حكيماً متفيقهاً، خاصةً حين يجلس في الصف الأمامي (كطفلً مشاغبٍ كثيراً ما عوقب بالإقصاء والنفي في آخر الفصل فينتهز أي فرصةٍ ليجلس في الأمام ) ليطل علينا بقفاه متشبثاً بالميكروفون، أو في لقاءاتٍ معدة يهل فيها بربطة عنقه الحمراء، التي تكن لها معزةً خاصة، فيتكلم ببطءٍ ليضفي على حديثه عمقاً وهمياً منعدماً، معلماً منظراً، متبسطاً، هابطاً من عليائه، وموبخاً محاوره إذا لزم الأمر إذ يستخدم كلمة «عسكر « كأنه تفوه بسبة، كاذباً مدعياً بدون أن يراجعه أحد، كحين قال بأن القوات المسلحة (تلك التي لم تحرز كسباً نظيفاً في كل ما خاضته من حروبٍ طيلة القرن العشرين) مؤسسةٌ لا تعرف الفشل، ولا نعلم على ذلك ما هو تعريفه للفشل والنجاح، فأحدٌ لا يجرؤ على الاعتراض مغبة التشريد على أحسن الأوضاع، والحبس في الدارج الأعم، ناهيك بالطبع عن من ينافقونه لمصلحتهم. هو لم يعتد على إعلامٍ لا يخضع لمؤسسة الرئاسة وأجهزة الأمن، إعلامٌ يشكل سوطاً وشوكةً في جانب المؤسسات الحاكمة. لم يواجهه أحد يوماً بكلامٍ قاسٍ كأن يقول له صراحةً بأن يديه مخضبتان بالدماء، يتهمه بالتعسف والقتل والاعتقال والفشل بمنتهى الثقة والاطمئنان، لا يخشى زوار الفجر وحبساً وراء الشمس أو حفرةً في الصحراء، لا يُستدل على رمته فيها إلى يوم يبعثون. لم يعتد أن يجلس نداً (إن لم يكن ضعيفاً) ليُتهم ويدافع عن نفسه، بدون سلطةٍ أو خوف، هو الذي لا يعيش دونهما.
رؤسائنا يستأسدون علينا بقوة الحديد والنار والسجون ثم يجلسون متوترين كالتلاميذ البليدة أمام محاورين أجانب
لست من السذاجة بمكان لأغفل أن الصحف والقنوات الفضائية قد تخدم مصالح وسياسات، إلا أنها ليست بالضرورة تابعةً للرئاسة، فقد أُحرج ترامب نفسه في البرنامج ذاته. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في ما صرح به مما يدينه ويدحض دعاوى نظامه المتكررة، فقد حاول أن يزوغ مراراً من أعداد المعتقلين وأحكام الإعدام، متعللاً بالعملية القانونية، وبالطبع على وجاهة ذلك الرد شكلياً، فالمحاورون يعلمون بأن القانون يخضع في الحساب النهائي لإرادته، بدليل إطلاق سراح آية حجازي ومحمد سلطان، الذي شهد على إجرام نظامه وبشاعته في البرنامج نفسه. بيد أن أكثر ما يدينه هو ذلك الاعتراف الصريح بالتعاون والتنسيق مع إسرائيل، مقترناً برأيه في مسؤولية أمريكا عن الأمن في العالم، أي قيامها بدور «شرطي العالم»، فمن ناحية يدحض ذلك تماماً وقطعياً كل دعاوى المؤامرة الكونية بقيادة صهيو-أمريكية على مصر، التي سوغ بها انقلابه وتنكيله بخصومه، لاسيما وأن ذلك يعكس قناعاته في ما يخص دور مصر الإقليمي ودور أمريكاً، ولا يمكننا أن ننسى الارتياح الذي شاع في أوساط الزمرة الحاكمة وأنصارها لدى انتخاب ترامب، نظراً لما أعرب عنه مراراً من كون التدخل في سوريا والعراق كان خاطئاً، كما يعكس جهلاً عميقاً بطبيعة ذلك الرئيس الأمريكي الشعبوي الأكثر إثارةً للجدل ربما في التاريخ الأمريكي القريب، والذي ينطلق في رؤيته لمنطقتنا عن نظرةٍ استعلائيةٍ كارهةٍ للمسلمين، وقد عبر عن احتقاره للسيسي واصفاً إياه بالقاتل، ثم ملحقاً ذلك بمسبةٍ بذيئة بحسب رواية بوب وودوارد في كتابه الأخير عن ترامب «خوف»، كما أنه وصل لسدة الرئاسة على أرضيةٍ ترفض مجانية دور «شرطي العالم» ذاك وتتساءل عن جدواه، وعلى الرغم من ذلك فالسيسي ونظامه بنوا العديد من حساباتهم وفق الشواهد على ترامب الأرعن المندفع الأهوج، بعدم اتساقه وكذبه الصريح ورئاسته المأزومة التي تحيط بها الشكوك والتخوين بالتدخل الخارجي منذ ما قبل اليوم الأول.
على صعيدٍ آخر، فهناك ما يحيط بهذه المقابلة ومغزاها. لقد أرادها السيسي منصةً يطل عبرها على العالم الأفسح وأمريكا بالتحديد، ليصبح قامةً عالمية، إذ يبدو أنه صدق الدعاية التي تطلقها أبواقه الإعلامية عن قدراته وحنكته وعقليته الفذة، لاسيما وأن «العالمية» كان الطعم الذي اصطاده به معدو البرنامج الأشهر. أراد أن يتم تلميعه، إلا أن ما ووجه به من أسئلةٍ تحمل إدانةً مبطنة والتغطية المصاحبة وشهادة محمد سلطان وخبراء أمريكيون عن الفشل العسكري في سيناء والقتل (خاصةً مذبحة رابعة التي تهرب من الإجابة عن مسؤوليته عنها) والإفقار والسجون التي صارت بيئةً حاضنة مكتملة المكونات لتفريخ الإرهاب، كل ذلك لم يطفئه عوضاً عن تلميعه فحسب، بل أبرز صورته الحقيقية التي يفر منها، وخلق انطباعاً بديكتاتورٍ انقلابيٍ دمويٍ من أولئك الذين تغص بهم منطقتنا والعالم الثالث بصفةٍ عامة ممن يعيشون بالعنف والدم وينزلون على ظهورهم، ثم جاء الطلب من قبل السفارة بعدم إذاعة اللقاء وفضح القناة والمعدين له ليؤكد على كل تلك المعاني السلبية ويزيد تلك الصورة قتامةً وقبحاً.
ليس منا من لم يسمع ويقرأ عن الحجاج بن يوسف الثقفي، لكنني أزعم أن كثيرين منا لم يعرفوا أن بيت الشعر الشهير «أسدٌ علي وفي الحروب نعامةٌ ربداء تجفل من صفير الصافر» قد قيل فيه إبان فراره من امرأةٍ فارسة هي غزالة الشيبانية، فثاني أبيات القصيدة يكمل «هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر». كذلك الحل مع رؤسائنا الأشاوس، يستأسدون علينا بقوة الحديد والنار والسجون ثم يجلسون متوترين كالتلاميذ البليدة أمام محاورين أجانب، ولما كان التاريخ في طبعته الثانية المعادة يتخذ طابعاً هزلياً.
بالطبع في مقدور الإعلام في الغرب أن يجلو ويجمل متى شاء من يختار (في حدودٍ معقولة تفرضها قدرات الشخص وملكاته)، فهو كالماشطة التي تزين العروس، وأحياناً على عكس المثال الشائع قد ينجح على الرغم من القبح وشيءٍ من عكارة الوجه، إلا أنه في حالتنا لم يختر أن يجمله في تلك المقابلة، فلا نستطيع أن نلوم الإعلام أو البرنامج أو المحاورين ونحملهم المسؤولية عن النتيجة بقدر ما نلوم الضيف على عكارة خلقته.
كاتب مصري
مقال غاية فى الروعة وعمق الفهم والتحليل … للأسف الشديد, مصر تحت حكم هذا السفاح الصهيونى الأرعن السيسى, تهوى إلى قرارٍ سحيق بسرعة الضوء … ولهذا جيئ به من تل أبيب وواشنطن, ليدمر مصر تدميراً تاماً وشاملاً, لا أمل فى النجاة بعده أبداً … لعنة الله عليه وعلى جنوده وزبانيته ومؤيديه فى الدنيا والآخرة