قد تكون هذه واحدة من مفارقات الحداثة، رغم وفرة هذه المفارقات عندما قدمت الثقافة في حفلتها التنكرية مضادات ميدانية لاطروحات نظرية بالغة التأنق، ففي ذروة الانهماك في كتابة الشعر الحديث والتنظير الجمالي المصاحب له من الخمسينات الى السبعينات من القرن الماضي.
غامر شعراء ونقاد في قراءات جديدة لشعرنا القديم، منها كتاب د. محمد النويهي ‘قضية الشعر الجديد’، وما كتبه صلاح عبد الصبور بعنوان ‘قراءة جديدة لشعرنا القديم’، ويوسف سامي اليوسف عن الشعر الجاهلي اللحظة الطلليّة، وبلغت عدوى القراءات الجديدة لما هو قديم مفكرين مثل د. صادق العظم في كتابه ‘عن الحب العذري’، وعالم الاجتماع طاهر لبيب في كتابه عن الظاهرة العذرية، لكن سرعان ما هدأت هذه الموجة وكأنها كانت تعبيرا عن فائض المغامرة باتجاه التحديث والعصرنة والكشف، وان كانت تجربة ادونيس في قراءة الشعر العربي القديم قد تجاوزت تلك القراءات الى اختيار نماذج منها المهمل نقديا والمسكوت عنه لأنها تخرج عن المألوف المدرسي، فكان كتابه بأجزائه الثلاثة ديوانا آخر للشعر العربي، قدّم من خلاله شعراء عبروا ازمنتهم برؤى ثاقبة وبدوا كما لو انهم اكثر معاصرة من المعاصرين بمقياس التقاويم التقليدية ، ما حدث بعد هدوء تلك الموجة هو العكس تماما، بحيث بدأت تسود قراءات قديمة لشعر جديد، فالفائض تحول الى نقصان، لأن مشروع الحداثة كسياق بنيوي وشامل تعرض لاجهاض، تماما كما حدث لنهضة التاسع عشر، وبدلا من اغناء النصوص القديمة بقراءات جديدة تم افقار النصوص الحديثة بقراءات تقليدية عادت الى ما هو شكلاني محض ويعاني من انيميا جمالية كي يصبح المرجعية المُتْحفية في غير الأوان والمكان، فهل كانت تلك الموجة تجريبا لمفاتيح جديدة في اقفال قديمة؟ بحيث توظف السايكولوجيا والمناهج الجديدة ومنها البنيوية لتلك التجارب ثم ينتهي الأمر عند ذلك. فما بدأه د. النويهي من خلال مناهج حديثة في مقدمتها المنهج النفسي، وما اسس له د. كمال ابوديب بنيويا في قراءة النصوص القديمة لم يُستكمل، لأن الموجة الاتباعية المضادة زحفت على ذلك المنجز بكل ما فيه من هشاشة واستحياء واحساس غامض بغياب الشرعية، وبدأت هذه الموجة المضادة بالبحث عن اسلاف وجذور في مقابر القدماء لقصيدة النثر والسوريالية والأشكال المًُجْتَرَحة من صميم عصر مغاير بايقاعاته ومكوناته وهواجسه.
*************’
لم تسلم القراءات الجديدة لما هو قديم من التقويل الذي يتخطى حدود التأويل، فالتقويل تعذيب للنصوص كي تعترف بما لم تقترف وهو اسلوب بروكوستي بامتياز يشبه الى حدّ بعيد تعذيب قاطع الطريق بروكوست لضحاياه بحيث يمط سيقانهم او يبترها كي تلائم مساحة السرير الذي تُسجى الضحايا عليه.
فعلى سبيل المثال يرى د. النويهي أن الغزل الجاهلي وأوصاف المرأة فيه ترضي اذواق نجوم هوليوود لأنها تقدم ما يسمى (curvatious ) ومعناها كثرة الأقواس في الجسد، وهو بعكس ما رآه صلاح عبد الصبور عندما قال ان الشعراء العرب كانوا اسرى صفات امرأة واحدة، وتساءل ألم يحب احدهم نحيلة أو عسلية العينين او صفراء الشعر، وبهذا المعنى لم يكن الغزل على هذا النحو النمطي بل المُنَمْذَج الا في مطلق المرأة كما هو في مطلق الخيل والناقة، وربما لهذا السبب جاءت بطلة مسرحية عبد الصبور ‘مجنون ليلى’ وفق نموذج مضاد سواء بمقاييس الجمال او بالعمل باعتباره الصورة المضادة لنؤوم الضحى، أو (الهِرْكولة) التي تحتاج لمن يعينها على النهوض بسبب غلظة ردفيها اللذين لا تتسع لهما الأبواب.
التأويل يشترط ممكنات هاجعة في باطن النصّ وقابلة لجعله متعددا في مستويات التلقي، بعكس التقويل التعسفي الذي يضيف الى النصّ اسقاطات من خارجه.
‘ ”
***********
من امثلة التقويل ما كتبه الراحل د. يوسف ادريس عن الرواية الجديدة كما كتبها روب غرييه فقد قال ان المصريين القدماء استبقوه اليها بالاف السنين، وخطورة التقويل انه يحول الماضي الى بديل للقادم وكأنه ماضٍ دائم الحدوث، واذكر انني قلت ذات يوم للمفكر الراحل الجابري وعلى عجل في مطار اورلي انه وقع في ما حذّر من الوقوع فيه وهو الاسقاط لأنه اعاد انتاج ابن سينا متخيلا اياه خارج اي تأثر بإخوان الصفا، وبالرغم من أية مآخذ يمكن رصدها على القراءات الجديدة للنصوص القديمة الا ان المحاولة بحد ذاتها تعبير كما قلت عن فائض في هاجس الكشف والتحديث، لهذا ازدهرت في ربيع الحداثة العربية رغم كل ما كان يشوب هذا الربيع من ازهار صناعية وحالات من التماهي والتقمّص بمعزل عن الواقع.
الردّة عن الحداثة في الأدب كانت مُتزامنة وتوأما لعدة ردات أخرى في الفكر السياسي، فالثورات سرعان ما اصابها التخثًّر وتحولت الى سلطات زمنية غاشمة، لهذا اصبحت الجمهوريات ممالك ولم تنج من عدوى الوراثة، حتى المعارضات ومنها اليسارية لم تسلم من هذه العدوى، وكان الخلل جذريا وبنيويّا في صميم النسيج الاجتماعي الذي تلونت قشرته وتمددت أفقيا لكن بقي المضمون على ما هو عليه.
لقد كان الناقد المغامر والمبشر بحساسية جديدة يبحث عن الشعرية الحديثة في نصوص كلاسيكية، لكنه الآن وبعد كل هذه ‘البطالة والاستنقاع الاكاديمي والخمول المعرفي اصبح يبحث عن القصيدة الكلاسيكية وعناصرها وايقاعاتها في النصّ الحديث، تلبية وانسجاما مع هاجس البحث عن شرعية، لأن ثالوث التكفير والتجريم والتحريم شمل الأدب ايضا، واشاع مناخا مشحونا بالترهيب يهدد من يُصَنّفون على انهم مُنْبَتّون وبلا جذور وبالتالي هم جزء من حمولة ما يسمى الغزو الثقافي رغم ان هذه السلالة من المصطلحات ولدت من رحم العُصاب والخوف من الآخر وانعدام الثقة بالذات.
***************
الموروث ليس بصلة يقشرها جيل بعد جيل كي يصل الى اللاشيء، ففيه عناصر بقاء تحتاج الى اعادة كشف كما يقول رينيه شار، لهذا فإن اول شرط لاعادة قراءة الموروث على اختلاف نوعه وحقله المعرفي هو حذف التابوية ونزع الحصانة لأنه في النهاية افراز بشري وأرضي، وبه من النّقصان ما يتيح للورثة الأوفياء ان يستكملوه، من خبراتهم وابداعهم وليس فقط بفضل مناجمه السًّحرية التي لا تنضب، وفي الحقبة المعافاة من التجريب ومحاولة اجتراح آفاق جديدة يقوم المعاصرون بتسليف واقراض القديم، وحين يحدث العكس يبدأ الإفقار والاقتراض، وتلك هي جدلية التاريخ بين الفعل الماضي الناقص الذي يعني الاستمرارية والاضافة والفعل الماضي التام الذي يعني النهايات والدّفن بلا اي موعد مع قيامة !