تنتمي الماندولين إلى عائلة الوتريات، وهي من الآلات الموسيقية الجميلة شكلاً وصوتاً، تمتد جذورها إلى العود العربي الذي حمله زرياب من الشرق إلى الأندلس، ثم انتقل من الأندلس إلى أوروبا، ومنه نشأ عود الرينيسانس في عصر النهضة، الأقرب شكلاً إلى العود العربي التقليدي، والعود الباروكي في عصر الباروك، الذي تميزه العنق الطويلة جداً المثبت عليها عدد كبير من الأوتار. من العود أيضاً طورت أوروبا بعض الآلات الوترية الأخرى، كالماندولين، تلك الآلة الصغيرة التي تشبه العود، فيتخذ جسمها الخشبي شكل دمعة العين أو نصف الكمثرى، وتحتوي على فتحة الصوت، والعنق أو الذراع الرفيعة القصيرة، التي يشد عليها أربعة أزواج من الأوتار في أغلب الحالات، يتم العزف عليها بأصابع اليد مباشرة أو بواسطة المضراب، ولها تقنيات العزف التي تقوم بتوليد النغمات وصنع الإيقاعات. لم تظهر آلة الماندولين دفعة واحدة في شكل واحد، وإنما مرت بمراحل تطور على مدى سنوات طويلة، واتخذت عدة أسماء وأشكال مختلفة، حيث كان ظهورها الأول في القرن السادس عشر باسم الماندورا، ثم الماندولا. لكن الماندولين بشكلها التقليدي المعروف، هي الماندولين الإيطالية، التي يكون ظهرها مقوساً كالعود تماماً.
وفي عصور لاحقة ظهرت ماندولين أخرى مسطحة الظهر، مع هجرة الإيطاليين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وصارت تعرف بالماندولين الأمريكية، كما كان كل من عود الرينيسانس والعود الباروكي في أوروبا وهي تبدأ نهضتها، مظهراً من مظاهر التقدم الحضاري، والرفعة الثقافية والعلو الطبقي، كذلك كانت الماندولين مرتبطة في مطلع نشأتها بالطبقات النبيلة، واستطاعت الوصول إلى عباقرة الموسيقى الكلاسيكية، ليؤلفوا لها بعض القطع الموسيقية الخالدة، التي ربما لا تعد كثيرة من ناحية العدد، لكنها أثقلت تاريخ هذه الآلة الموسيقية، ومنحتها الحياة المستمرة في العالم الكلاسيكي، لتذكّر دائماً بقدراتها التعبيرية الرائعة التي تتجاوز الألحان المرحة المبهجة، إلى ألوان أخرى أكثر عمقاً من حيث التعبير الموسيقي والعاطفي على السواء.
فيما بعد صارت الماندولين من الآلات الشعبية التقليدية في إيطاليا على وجه الخصوص، وفي بعض البلدان الأوروبية الأخرى، إذ ترتبط بالرقصات والأغنيات الفولكلورية الأصيلة في ثقافة بعض المدن الإيطالية، وعلى رأس هذه المدن مدينة نابولي، حيث رقصة تارانتيلا نابوليتانا الشهيرة. للماندولين صوتها المختلف وهو صوت جميل رشيق، أكثر حدة من صوت العود وأقل شجناً، أو يمكن القول إن لها طريقتها الخاصة في التعبير عن الشجن والمشاعر المكثفة.
الماندولين في الموسيقى الكلاسيكية
تم توظيف آلة الماندولين في أنماط وقوالب موسيقية مختلفة من الموسيقى الكلاسيكية، حيث ألف لها الكبار من العباقرة الكلاسيكيين، وعلى رأسهم بيتهوفن، الذي كان يعزف على الماندولين، وكانت هذه الآلة الجميلة معلقة على الحائط بجوار البيانو الخاص به. يقال إن بيتهوفن ألف عدة مقطوعات لآلة الماندولين، لكن بقي منها أربع مقطوعات فقط هي ما نسمعها حتى اليوم ويتم عزفها من أشهر عازفي هذه الآلة الموسيقية. يقال أيضاً إن بيتهوفن أهدى مقطوعاته للماندولين إلى الكونتيسة جوزفين، التي كانت تحب الماندولين وتجيد العزف عليها. القطعة الأولى من مؤلفات لودفيغ فان بيتهوفن لآلة الماندولين، أندانتي وتنويعات للماندولين والبيانو، وهي قطعة متوسطة السرعة، يستغرق عزفها عشر دقائق تقريباً، يغلب عليها أسلوب العزف المتصل والاهتزاز الدائم للأوتار، مع بعض الضربات القوية في النهاية، تقود الماندولين الميلودي، ويبدو دور البيانو ثانوياً إلى حد ما. القطعة الثانية أداجيو للماندولين والهاربسيكورد، وهي قطعة قصيرة يستغرق عزفها أربع دقائق ونصف الدقيقة، والأداجيو قطعة بطيئة السرعة بطبيعة الحال، تبدأ هذه المقطوعة بصوت الهاربسيكورد، ثم تدخل الماندولين بنغمات متقطعة، وتنويعات متصلة تنتهي بوقفات جميلة، تتيح للهاربسيكورد أن ينطلق بأنغامه الخاصة، ثم يصمت الهاربسيكورد ليستمع إلى الماندولين ويرد عليها، إلى أن تُطلق الماندولين ضربتي النهاية.
القطعة الثالثة «سوناتينا الماندولين والهاربسيكورد في سلم سي الصغير» والسوناتينا نوع من السوناتا أقصر زمنياً وأخف من ناحية التركيب الموسيقي، تأتي هذه السوناتينا في ثلاث حركات، بطيئة، متوسطة السرعة، بطيئة جداً، يستغرق عزفها أربع دقائق تقريباً. تعد هذه القطعة من أجمل مؤلفات بيتهوفن لآلة الماندولين، فيها من الجمل الموسيقية ما تحبه الأذن العربية، وتتكون ثيمتها الرئيسية البديعة من جملة موسيقية تتكرر ثلاث مرات، تكون المرة الثالثة بتنويع جديد، تبدأ القطعة بالجملة الرئيسية، ومنها يمتد ويتفرع الخط الميلودي، الحركة الأولى تبدو حزينة إلى حد ما تسير بإيقاع بطيء، الحركة الثانية أقل حزناً وأسرع قليلاً وفيها بعض الإشراق، في الحركة الثالثة تعود الثيمة الرئيسية بشكل أبطأ وأكثر حزناً، مع تصاعد خفيف يؤدي إلى النهاية.
القطعة الرابعة «سوناتينا للماندولين والهاربسيكورد في سلم سي الكبير» تعزف السوناتينا بواسطة الماندولين، ويرافقها الهاربسيكورد في الخلفية، يردد من خلفها النغمات ويحاورها أحياناً، وفي أحيان أخرى ينطلق الاثنان معاً في أنغام رشيقة سريعة متلاحقة، ثم تبدأ ثيمة جميلة قصيرة متكررة، مع بعض الارتجالات أو التنويعات التي تنتهي إلى تصاعد يعود بالثيمة مرة أخرى، ثم تنتقل الموسيقى إلى ضربات بيتهوفن المعروفة في ثيمة أخرى أكثر عمقاً، لكنها لا تخرج عن الإطار اللطيف الرشيق. تتكون هذه السوناتينا من ثلاث حركات أيضاً، سريعة، متوسطة السرعة، سريعة، في الجزء الأخير منها تصمت الماندولين قليلاً ليسير الهاربسيكورد مؤدياً اللحن، وبعد هذا الصمت تدخل الماندولين لتقول كلمة الختام المختصرة، كل هذا في مدة تقل عن ثلاث دقائق، هي كل ما يستغرقه عزف هذه المقطوعة الجميلة، التي تُظهر جانباً عاطفياً رقيقاً عند بيتهوفن، بعيداً عن الأفكار الإنسانية الكبرى والأوركسترا الهائلة، كما تختلف هذه المقطوعة وتعبيرات بيتهوفن الموسيقية من خلال آلة الماندولين، عما ألفه من سوناتات للبيانو، كان فيها الكثير من رقة التعبير العاطفي أيضاً.
إلى جانب بيتهوفن، ألف الموسيقار الإيطالي أنطونيو فيفالدي «كونشرتو الماندولين» سنة 1725. يتكون الكونشرتو من ثلاث حركات، سريعة، بطيئة، سريعة، يستغرق عزفه ثماني دقائق، حشد فيفالدي في هذا الكونشرتو، مجموعة كبيرة من الوتريات، تضم الكمان والفيولا والتشيللو والكونتراباص، وكذلك العود الباروكي، لكن البطلة هنا هي الماندولين، التي تبدأ المقطوعة في الحركة الأولى بنغمات موسيقية سريعة مبهجة، تحاور آلة أخرى أو مجموعة من الآلات معاً، الحركة الثانية رقيقة رومانسية بانفراد الماندولين وتأملاتها الهادئة، مع بعض التداخلات الخفيفة من الآلات الأخرى، وفي الحركة الثالثة يعود اللحن إلى السرعة والمرح، مع اهتزازات الأوتار السريعة المتلاحقة، كذلك ألف الموسيقار الإيطالي دومينيكو سكارلاتي، مجموعة كبيرة من المقطوعات للماندولين في عصر الباروك.
كاتبة مصرية