بعد مدة من قرع طبول الحرب وتصاعد الكلام بشكل مكثف عن ضربة أمريكية لسورية، على خلفية استعمالها المزعوم للسلاح الكيميائي المحرم دوليا في حربها الشرسة مع المعارضة المسلحة، وبعد استنفار كل الآلات الإعلامية الإقليمية والدولية لتجعل أمر الضربة العسكرية قدرا محتوما، وموعدها يكاد يكون معلوما، بدأت نغمة هذه الحرب تخف شيئا فشيئا لتفسح المجال للحديث هذه المرة عن مبادرة رمت بها روسيا في خضم التردد والتخبط الأمريكي والغربي، لتخلط فيها أوراق أزمة دموية تخطت الربيعين، وها هي تشرف على ربيعها الثالث، لم يصدق الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه، قد وجد فجأة مخرجا لمحنته التي سببت له حرجا كبيرا، فهو الحاصل على جائزة ‘نوبل’ للسلام، الذي بدأ مشواره الرئاسي بالحديث عن السلم ونهاية زمن الحروب، وكلنا يتذكر خطبته الشهيرة في مصر، التي أسس فيها لعلاقة جديدة مع العالم الإسلامي. ومن زاوية أخرى فإن قرار شن الحروب على الدول لم يعد بالأمر السهل كما كان سابقا، فزمان الوصل بالأندلس، كما يقول الشاعر الأندلسي، قد ولى إلى غير رجعة في ظل دينامية وتطورات ومتغيرات إقليمية عميقة تحفل بها العلاقات الدولية المعاصرة، وفي ظل أزمة عالمية خانقة وتراجع واضح في قوة الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا سارع رئيس بلاد العم سام إلى تلقف المبادرة واعتبرها إيجابية، ثم بعد ذلك أمر الكونغرس الأمريكي بتأجيل التصويت على الضربة، ليفسح المجال للعمل الدبلوماسي، فبعدما أصر الرئيس الأمريكي على كون سورية هي التي استخدمت السلاح الكيميائي، حتى قبل صدور تقرير اللجنة الدولية، وبدون تقديم أية براهين ذات بال على ذلك الاستخدام، وبشكل يذكرنا بالحكاية الأمازيغية التي أصر فيها الذئب على أن النعجة هي التي عكرت صفو الماء، على الرغم من كونه هو الذي كان واقفا على منبع الماء والنعجة كانت أسفل النبع، ها هو يتراجع عن فكرة ضرب سورية بعد طول ارتباك وتناقض وتردد، فما الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية أقوى دولة في العالم تسلك مثل هذا السلوك خلافا لسوابقها التي كانت تقرر فيها وتحشد وتضرب بسرعة كبيرة وبدون كثير كلام؟ لا شك أن جميع الظواهر الاجتماعية بما فيها ظاهرة الحرب والسلم والسلوكيات المختلفة للأفراد والجماعات، التي يختص بدراستها علم الاجتماع لا يمكن أن تكون نتيجة ما يسمى بالعامل الوحيد، بل تتضافر عدة عوامل رئيسية وثانوية لتعطينا في الأخير ظاهرة معينة، وفي حالة الظاهرة الأمريكية فإن ثمة محددات أساسية تجعل السلوك الأمريكي والغربي عموما تجاه سورية يتسم بالتردد وعدم الإقدام على التورط مباشرة في الحرب، كما دأبت على ذلك في السابق لعل أبرزها: المصلحة الإسرائيلية: إن استمــــرار الوضــع السوري على ما هو عليه من دماء ودمار يشكل مصلحة غربية وإسرائيلية بالأساس، فالأزمة السورية توفر فرصة ذهبية ليس لاستنزاف الجيش السوري والجماعات الجهادية وتدمير بنيات ومعالم سورية التاريخية فقط، بل وتعمل على استنزاف كل الأطراف الإقليميين الآخرين المعنيين بالتوازنات والمعادلات الإقليمية بالمنطقة . ضبابية البديل: فتشرذم المعارضة السورية وتعدد اتجاهاتها وولاءاتها، إضافة إلى العدد الهائل من الفصائل والجماعات الجهادية المقاتلة في سورية وخلافاتها المستمرة الذي وصل حد الانشقاق والاقتتال في ما بينها، زد على ذلك انهيار المشروع ‘الإخواني’ وفشله في مصر، كل ذلك يجعل السلوك الأمريكي محتاطا تجاه طبيعة البديل الذي يمكن أن يحل محل النظام السوري. خطورة التدخل المباشر: إن أي تدخل عسكري مباشر في يوميات الأزمة السورية ينطوي على كثير من الخطورة والمغامرة، خاصة أن المستنقع العراقي والأفغاني مازال ماثلا أمام الأمريكان. من جهة أخرى فإن الحديث عن ضربة محدودة ومتحكم فيها يظل كلاما نظريا في نهاية الأمر، فالحرب هي الحرب ولا يمكن التنبؤ بمساراتها ومآلها، خاصة أن هناك قوى إقليمية تمتلك من الدهاء والقدرة ما يمكنها من جر الولايات المتحدة للمستنقع السوري، مهما أرادت أن تكون ضربتها جد محدودة. المعارضة الشعبية: رغم محاولات الإعلام الحثيثة والممنهجة والمكثفة لصناعة رأي عام مساند للضربة العسكرية ضد سورية، فإن كل استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات سبر الآراء، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمــــريكية أظهر معارضة كبيرة جدا لأي تدخل عسكري في سورية، كما أن المجتمع المدني الغربي نظم احتجاجات عديدة ومتنوعة للتنديد بهذه الحرب ومعارضتها . دينامية العلاقات الدولية: تشـــهد العلاقات الدولية حركة كبيرة جدا وتطورات هيكلـــية يمكن تلخيــــصها في بروز قــــوى دولية وإقليمية جديدة بدأت ترمي بثقلها على مستوى التأثير على مجريات الأحـــداث العالميـــة وبشكل بدأ يزاحم هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المسرح الدولي، ويقلص بالتدريج من إمكانات انفرادها بالقرار الدولي، وفي اتجاه نحو عالم ينسلخ من الأحادية المترهلة ليلج عالما متعدد الأقطاب والقوى. هذا وقد أضيفــــت المبادرة الروسية الرامية إلى وضع الترسانة الكيميائية السورية تحـــت المراقبة الدوليــــة لتشكل محددا آخر للسلوك الأمريكي والغربي نحو سورية، على اعتبار أن هذه المبادرة من شأنها أن تحقـــق أهــــداف أي ضربــــة عسكرية على سورية وتجعل السلاح الكيميائي خارج أي استعمال مستقبلي. وإذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد صرح بأن المبادرة كانت نتيجة محادثات روسية – أمريكية خلال قمة ‘بترسبورغ’ للدول العشرين الكبرى في العالم، فإن الأكيد أن ثمة شيئا ما تم تداوله تحت الطاولة على درجة من الخطورة، بحيث أنه ردع القوة العظمى الأولى في العالم عن الإقدام على عمل عسكري ضد سورية، وجعلها تدخل في كل هذه الدوامة من التردد والحيرة، والذي لا يمكن تفسيره بالحاجة إلى الرجوع للكونغرس، فمتى كانت أمريكا تنتظر الضوء الأخضر من هذه المؤسسة من أجل شن حروبها على دول العالم؟ والأكيد أيضا أن هناك أشياء كثيرة وليس شيئا واحدا فقط، تتراوح بين الصفقات والتهديدات، ولعل مستقبل الأيام كفيل بكشف بعض هذه الأشياء، التي لا شك أنه مهما كانت فإنها تنم عن بروز قوى إقليمية ودولية بشكل أكثر قوة وتأثيرا متجهة بالعالم بشكل حثيث نحو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، بعدما تربعت بلاد العم سام على عرش العالم وبشكل أحادي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فالتأثير الروسي على مستوى العلاقات الدولية يبدو أنه يتجاوز دوره في مجلس الأمن، باعتبار روسيا دولة دائمة العضوية في هذا الجهاز الأممي، وتمتلك حق النقض ‘الفيتو’ ليصبح مجال تأثيرها أكبر بكثير من ذلك، كما أن قوى إقليمية أخرى بدأت تشكل ثقلا كبيرا جدا على مستوى التأثير في مجريات الأحداث الإقليمية والدولية، سواء تعلق الأمر بدول أو منظمات أو تكتلات دولية. خلاصة القول ان لغة الصفقات والمصالح القومية للدول الكبرى، وكذا الرسائل المتبادلة في الكواليس بين القوى الفاعلة في مجريات الأحداث في المنطقة قد جعلت من حتمية الضربة على سورية وكل التجييش الذي صاحبها إعلاميا، مجرد فقاعات وجعجعة بدون طحن، والمهم في كل هذا أن الرئيس الأمريكي وجد أخيرا طوق النجاة الذي سيخرجه من الدوامة والتردد الذي وضع نفسه فيها، كما أنه يتيح له القول بأنه قد استطاع تحقيق أهداف الحرب بدون إطلاق رصاصة واحدة وبدون الدخول في مجاهل حرب تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت غير السارة. ومن جهة أخرى يمكن القول بأن المبادرة الروسية في عمقها يمكن اعتبارها ‘ضربة معلم’ تمكن سورية وحلفاءها ليس فقط من منع الضربة على سورية، بل ونزع أي مبررات وذرائع مستقبلية للحديث عن شن حرب في المستقبل عليها، خاصة مع التقدم النوعي للجيش النظامي في الميدان، كما يمكنها من التخلص من ترسانة سلاح يورث سمعة سيئة وغير مجد عمليا على مستوى التوازنات الإستراتيجية الإقليمية، والمهم أيضا في هذا الإطار أن الحل في سورية لن يكون عسكريا، بل سياسيا حيث لن يخرج عن النمط العراقي وذلك بإعادة هيكلة النظام السوري في اتجاه تفكيك مركزيته حتى لا تبقى هناك أي دولة مركزية قوية في محيط ‘إسرائيل’، وهذا ما سيتكفل به مؤتمر ‘جنيف 2 ‘.