المتاهة

حجم الخط
0

في الممر الضيق المظلم الملتوي كثعبان أسود كان «س» يسير متئدا، يحاول الإمساك بالحائط فتخور قواه، بدا له أن الممر يضيق كلما تقدم في المشي، بحيث أصبح يخنق الأنفاس. قبل النهاية بقليل؛ أمره السائر خلفه بصوت أجش بالانعراج إلى اليمين، هبط ثلاث خطوات، توقف أمام الباب الحديدي، فتحه وألقى جسده المتعب على الأرض الرطبة المغطاة بفراش خشن مهترئ. أوصد السائر خلفه الباب الحديدي. فتح شراعة صغيرة في الباب ومضى.

٭ ٭ ٭

شمس أغسطس القائظة تلهب رأس «ص» وتدمي قدميه المتعبة من السعي بحثا عن عمل. يخشى العودة خالي الوفاض إلى غرفته ذات الحمام المشترك، والمكدس بها أطفاله وزوجته. يطالبه صاحب الغرفة بالأجرة فيتعلل له بضيق الحال، فيسكت على مضض. أكان لا بد أن ينجب؟ الجسد هو متعة وخطيئة الفقراء الوحيدة.

٭ ٭ ٭

يستيقظ «س» على صداع ينهش رأسه المتعب، عبثا يصفعه بالجدار.. ضربتان أو ثلاث ضربات فيما مضى كانت كافية لإنهاء الصداع.. اشتكى منه زملاؤه في العنبر فنقلوه إلى الانفرادي. السقف يعانده ويهوي مطبقا عليه. يصرخ فينفرج عنه حتى يبدو كملعب كرة قدم. يمد يده فتعبر الباب الحديدي، ليتشكل بستان يقطف منه ما تيسر من فاكهة.

٭ ٭ ٭

يهترئ نعل حذاء «ص» من اللف في الشوارع، يمسك بكيس الفاكهة الذي عبأه له فكهاني متصدقا عليه حين سأله عن عمل. يبتسم؛ على الأقل لن يعود بيده فارغة للعيال. كان يريد إكمال تعليمه في دراسة الأدب؛ لكن ما الحيلة؟ تراكمت عليه الديون، والبطالة، وثلاثة أطفال في رقبته.

٭ ٭ ٭

رأس «س» تتعبه.. ضيق الغرفة يوتره، ماذا لو تخلص من رأسه؟ ستتسع الغرفه بلا شك. ستصبح أرحب. ولما لا؟ والرأس اللعين يتمدد فجرا فيملء فراغ الغرفة. سيقتله هذا الرأس لا محالة إن تركه فوق رقبته.

٭ ٭ ٭

يتدحرج رأسه من بين يديه. عبثا يحاول الإمساك به فينفلت هاويا على الأرض. ترعبه عينه المصمته المحدقة به، والخالية من أي تعبير. في كل نفضة وأخرى تخرج الرأس كلماتها، فتتحول إلى عصافير وفراشات تتسرب من عقب باب الحجرة الضيقة، التي كان يستطيع سماع أنفاسه فيها، قبل أن تسبقه دماغه وتقرر الانفصال. يحاول القيام فتصطدم رقبته بالسقف المنخفض. يتمدد على الأرضية الباردة فتصطك قدماه بنتوءات الحائط الصلبة، يضع رقبته بين يديه، ويستكين في الركن مقرفصا.
كائن أسود لزج، يتعملق في عتمة الليل والكلمات بطول وعرض الغرفة. يميل على الرأس القابعة إلى جوار الباب يلتهمها، ويستدير ناحية الجدار.

٭ ٭ ٭

في ركن الحديقة العامة، كان الباحث عن العمل بلا جدوى يفرد لفافة سندوتش الفلافل الناشعة بالزيت وبحبر الجريدة. يتوقف قليلا أمام الخبر المكتوب؛ وفاة كاتب في زانزانته في ظروف غامضة.
ينحي الورقة، ويواصل القضم.

كاتب وإعلامي مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية