«المتبقون» للأمريكي ألكسندر باين… شخصيات شائكة وأجيال متفاوتة

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

لندن ـ «القدس العربي»: يأتينا فيلم «المتبقون»، «The Holdovers»، للمخرح الأمريكي ألكسندر باين، كلحظات من الدفء الذي يشع بهجته في قلوبنا في أشهر الشتاء قارسة البرد. الفيلم، المرشح للعديد من جوائز الأوسكار لهذا العام من بينها أفضل فيلم وأفضل ممثل وأفضل ممثلة مساعدة وأفضل سيناريو أصلي وأفضل مونتاح، يداعب القلب فيثير شجونه تارة ويربت عليه تارة أخرى، يقوده أداء متميز لبطله بول جياماتي.
في الفيلم، الذي تدور أحداثه في عطلة عيد الميلاد السبعينات من القرن العشرين في مدرسة أمريكية عريقة باهظة المصاريف، يقدم لنا باين عملا سلسا يكشف رويدا رويدا حقيقة شخصيات أبطاله، التي قد تبدو لنا للوهلة الأولى مختلفة كثيرا عن حقيقتها. ربما من أول ما نلحظه في الفيلم هو تلك الأجواء السبعينية بامتياز، فهو ليس فيلما تدور أحداثه في فقط في السبعينيات بل يبدو أنه صُنع في السبعينيات، كما لو أننا كنا نتحلق حول جهاز الفيديو ونشاهد شريط فيديو لفيلم سبعيناتي الأجواء بامتياز. كل العناصر، من الملابس لتصفيفات الشعر إلى الموسيقى والأغاني المنتقاة لململس الفيلم ذاته، تتضافر لتنقلنا إلى السبعينيات، وتحملنا في أجواء من الحنين الممزوج بالشجن والسعادة في آن.
ومع أجوائه السبعينية، يحمل الفيلم الطابع المميز لأفلام ألكسندر باين، صاحب «عن شميدت» و«نبراسكا»، بشخصياتها التي تبدو للوهلة الأولى شائكة صارمة يصعب الاقتراب منها ليتكشف لنا تدريجيا أنها تحمل قلبا عامرا بالحب رغم القسوة الظاهرية، وبالصراع بين شخصيات من أجيال متفاوتة يكشف في النهاية أن الأجيال تلك يمكن أن تلتقي وتحتمي ببعضها البعض على اختلافها، وهناك بالطبع الطريق الممتد والرحلة بالسيارة، التي يتكشف خلالها الكثير.

يلعب بول جياماتي دور مستر هونهام، أستاذ الأدب الكلاسيكي في مدرسة داخلية عريقة، كان هو شخصيا من بين تلاميذها في صباه. إنه أستاذ صارم يحاسب طلبته بحزم ويقسو عليهم إذا تهاونوا في الانضباط. هو بالطبع لا يحظى بشعبية كبيرة وسط طلبته، الذين يسخرون منه في السر ويطلقون عليه الألقاب بسبب عينه الجاحظة الكسول وبسبب رائحة جسده النفاذة، التي سيتكشف لنا لاحقا أنها ناتجة عن مرض. هونهام يرتدي حلة كلاسيكية عتيقة، لا يبدو أنه يبدلها قط، وهو أعزب، يقيم في المدرسة، حاله حال طلبته الأثرياء، الذين يقيمون في المدرسة بعيدا عن أسرهم. هو طبعا يدرك وحشته ويدرك عدم شعبيته وسط طلبته ويدرك إحباطه من الجيل الجديد الذي لا يقدر الأدب الرفيع، ولذا فهو يخفف من خيباته بمعاقرة الشراب.
يعلم هونهام إنه لا يحظى بحب الطلبة أو مدير المدرسة، الذي يغضبه التزام هونهام بالكفاءة الدراسية كمعيار لدرجات الطلاب، مما يغضب أولياء الأمور الأثرياء الذين يتبرعون بمبالغ كبيرة للمدرسة، والذين يودون أن يحصل أباءهم على درجات كبيرة حتى يتمكنوا من الالتحاق بجامعات مرموقة، رغم تحصيلهم الدراسي الضعيف. وتأتي عطلة عيد الميلاد والعام الجديد، ويعرب مدير المدرسة عن ازدرائه وغضبه من هونهام بإبقائه في المدرسة وقت العطلة، بعد ذهاب أغلب الطلبة إلى أسرهم للاحتفال، ليكون مشرفا على الطلبة المضطرين للبقاء في السكن الداخلي لعدم تمكن أسرهم من اصطحابهم في العطلة.
من بين حفنة الطلاب الحانقين المتبقين في المدرسة في العطلة الشاب الغاضب المتمرد نجد أنغوس، دومينيك سيسا في أداء متميز، الذي يبدو للوهلة الأولى مدللا مستهترا، ولكننا ندرك لاحقا سبب غضبه وتمرده. المدرسة في عطلتها إذن تخلو من الجميع ولكن يبقى هونهام وأنغوس، أما الشخص الثالث فهو السيدة لامب، طاهية المدرسة قوية الشكيمة التي تحاول التعايش مع حزنها الخاص، والتي تقوم بدورها دافاين جوي راندولف، المرشحة عن دورها في الفيلم لأفضل ممثلة مساعدة، والحائزة على جائزة غولدن غلوب لأفضل ممثلة مساعدة عن دورها في الفيلم، كما حاز جياماتي على جائزة غولدن غلوب لأفضل ممثل عن دوره في الفيلم. تمضي لامب عطلة عيد الميلاد في المدرسة، مع حزنها على ابنها، الذي كان طالبا متفوقا وحائز على منحة دراسية في المدرسة، ولكنه قُتل في حرب فيتنام بعد انضمامه إلي الجيش.
في عطلة عيد الميلاد، التي يفترض أنها وقت بهيج، يلتقي في المدرسة ثلاثة محبطين يعتريهم الحزن لأسباب مختلفة، وهم أيضا ثلاثة أشخاص لهم طباع مختلفة وبيئات مختلفة، ولكنهم رغم اختلافاتهم وأحزانهم عليهم أن يبقوا سويا وأن يخففوا عن بعضهم البعض الحزن والتعاسة.
في أيام الوحشة في المدرسة يدرك أنغوس أن معلمه الصارم ليس بالغلظة أو القسوة التي يخالها، ويدرك الأستاذ أن تلميذه الذي يبدو مستهترا مدللا ليس كذلك، بل يعاني من آلامه الخاصة ومن متاعبه الأسرية التي لا يدركها أحد. يدرك الأستاذ والطالب الكثير من القواسم المشتركة بينهما. كما يدركان مدى معاناة لامب بعد فقد ابنها الوحيد، تلك المعاناة التي تغلفها بالسخرية والانغماس في العمل.
نشاهد الفيلم فنرى فيه أسلوب ألكسندر باين المميز الذي يخلق التعاطف مع من يبدون لنا للوهلة الأولى أشخاصا صارمين واجمين يصعب حبهم. ربما هنا تكمن موهبة باين الحقيقية، وهي إيجاد مكان في قلوبنا للتعاطف مع من يصعب الاقتراب منهم. وما كان للفيلم أن يكون له هذا الدفء الفريد دون بول جاياماتي الذي يؤدي دور هونهام برهافة بالغة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية