الأدب مساحة واسعة من التأمل والتخييل، فهذا الأخير شديد الارتباط بتطوير الفنون الجميلة، بل صمام أمان للذة النص الأدبي، حينما نتخيل بواطنه، ونعيش أحداثه. فبين الواقعيين أمثال ستندال وأونوغي دوبلزاك، وجيوفاني فيرجا وفيودور دوستويفسكي وتشارلز ديكنز، والطبيعيين أمثال إميل زولا مياه كثيرة جرت تحت الجسر.
في المقابل هم لا يختلفون حول الوظيفة، التي سيشغلها الأدب في مستقبل الإنسانية، أو في مدى تمثيل الفن الأدبي للمأساة والملهاة، وإنما الإشكال الذي يسن الاختلاف والتباين بين هذين الوصفين، هو أن التخييل، الذي هو جزء من الإبداع، لا يتحقق إلا عبر فن الوصف أو فن الألغوريا. فهذا الأخير موجود، وبكثافة، عند كل من الواقعيين والطبيعيين، غير أن الوظيفة التي يقوم به ـ أي فن الألغوريا ـ هو التصوير العظيم، وإقحام ملكة التخييل في الإبداع. فمن الواضح جدا أن يكون علم الخيال والحدس الفني والعجائبية جزءا لا يتجزأ من علم الأدب الخاص بالتخييل، فضلا عن الأسطورة، التي جعلها أب السيريالية أندري بروتون، محط تأمل في ما تخدم به الوجود السيريالي العبثي. فمهما حاولوا إبعاد التخييل عن دائرة الاهتمام به كذات وموضوع، فإن شجرة انتمائه للعشيرة الإنسانية ما لبثت تنمو وتتشعب، ويصبح لها الظل الظليل. وبهذا فالتخييل موجود في الدين والسياسة، والفلسفة والأدب، والعلوم الاجتماعية والإبستمولوجيا، وكل النشاط العقلي المرتبط بالإنسان.
إن التخييل، في الآونة الأخيرة، أصبح منبعا لطفرات علمية حقيقية في حياة الإنسان، فلا بد أن يكون لعلم الكونيات المعاصر نصيب لا بأس به، ساهم في تغيير نمط العيش والحياة. فما أقدمت عليه المختبرات الصينية، المشهود لها بالكفاءة العلمية، من استحداث شمس غير طبيعية أي اصطناعية، جراء رفع من وتيرة درجة الاحتراق الحراري، الذي فاق كل التوقعات، بمثابة فاتحة علمية سيتم جني ثمارها في المستقبل القريب. فمن البديهي أن يكون للتخييل موطئ قدم باستحضار كل الأشكال الشيماتية المتوقعة، قبل الشروع في أجرأة المشروع العلمي، الذي سيساهم بكل تأكيد في الاقتصاد الطاقي الصيني. وبهذا كان التخييل ولا يزال مجالا بكرا، لم يستوف حقه من الدراسات العلمية، التي ستبرز مدى الدور الذي يقوم به في مختلف الأنشطة الإنسانية.
وغير بعيد عن مقومات التخييل نجد الأدب العجائبي والغرائبي، أسس منطقا أدبيا رفيعا، استهوى العديد من القراء، وأتاح متعة للقراءة عن طريق ابتكار صور مستفزة وغير مألوفة، وفرانز كافكا كان من بين الأدباء العالميين، الذين اقتحموا هذا العرين. ففي كتاب «مدخل للأدب العجائبي» لتزيفتان تودروف ربط بين قطبين أساسين في الإبداع هما: التخييل والصورة، مؤكدا ما جاء به الفيلسوف الفرنسي ميشال زرافا، أن لكل عصر صورة تستهويه، فضلا عن أن زرافا استطاع أن يربط بين الشكل ومضمون الإبداع، لينعكس بذلك على التخييل في علاقته بالصورة، كعتبة أولى تلفت انتباه القارئ. ولفهم أكثر لهذه الصورة، التي تمثل العصر، عند زيرافا، اعتمد على مبدأ التأويل، كعنصر يربط بين الذات والموضوع.
كانت الدراسات الأدبية تولي اهتماما قطعيا بالمتخيل والإحساس؛ لأن الأدب هو المجال الوحيد، من بين مختلف المجالات، التي تهتم بالظاهرة الإنسانية؛ وبهذا جاء الشعور والدفقات الشعورية للأدباء متصلة بعوالمَ غير مرئية، وحدسية.
وبخصوص تأويلات جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان، انفتحت الدراسات الاجتماعية، هي أيضا، على التخييل كمنبع ثر لمعرفة الروافد، التي تتحكم في تشكيل الوعي المجتمعي. وهذا ما نراه جليا، مع مأساة الطفل المغربي ريان، كيف أن للصورة، في ارتباطها بالتخييل، قوة تستطيع أن تحرك بموجبها مشاعر الملايين عبر العالم، وتدفع بهم إلى مشارف التعاطف اللامشروط؛ متجاوزين بذلك كل الاختلافات والخلافات السياسية والأيديولوجية والإثنية، التي تفرق بين الجنس البشري. وهكذا يتضح مدى أهمية الفصل بين التخييل، الذي هو جزء من الخيال، والواقع، أو بين الوهم والحقيقة. فهذه العلاقة جعل منها تودروف جوهر الأدب العجائبي، الذي يتشكل معظمه من التخييل، ولبسط اليد أكثر حاول تودروف أن يفكك البنية، التي يتألف منها الأدب، إلى عناصر تتجمع رزما في عنصر التخييل، فظاهرة الأدب تتألف من ثلاثة جوانب أساسية، وهي: الجانب الشفهي، والجانب التركيبي، والجانب الدلالي. ومن هنا فالتخييل يشكل اللحمة المغناطيسية، التي تشد مكونات الأدب بعضها إلى بعض. تأسيسا لما هو شفهي، في تواصلاتنا اليومية، يأتي التخييل كعنصر لنسق دلالي ومحفز للاستمرار في عملية التواصل.
فكما التركيب، كما الدلالة، يتم الربط فيهما، حسب رومان جاكوبسون، في دراساته اللسانية الشهيرة للغة، بين الدال والمدلول، وبه يضمن التواصل في مستقبل الأيام المقبلة من الحضارة الإنسانية. بيد أن المقدمة التي جاء بها تزيفتان، في كتابه «مدخل للأدب العجائبي» لم تنج، في رأي العديد من النقاد الفرنسيين، من الغموض والانتقاد الذي لفها في البداية؛ ليمتد إلى باقي المكونات الأخرى المشكلة للأدب التخييلي. فإذا رجعنا، الآن، إلى قيمة القراءة، التي تفضي إلى التخييل، نجد المفكر والكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانجيل في كتابه «تاريخ القراءة» أن العلاقة، في الأدب، قائمة بين القراءة والكتابة، فضلا عن الإمتاع، الذي يتحصل أثناءها. وهكذا يجيء التخييل الأدبي حاملا لواء «لذة النص» الأدبي الممتع؛ بصور بلاغية وأليغوريا تسافر بنا في أصقاع غير مرئية، يقول مانجيل: «نقرأ من أجل معرفة نهاية القصة، ونقرأ أيضا من أجل ألا نصل إلى نهايتها، نقرأ باهتمام وتمعن، ناسين ما حولنا، وما يحيط بنا. ونقرأ أيضا بازدراء واحتقار وألم وغضب وحذر، وكل ذلك من أجل تحصيل المتعة، التي ترجى من قراءة الأدب».
في غمار ذلك، استعان الباحث الأكاديمي الكندي مارلين برولي من جامعة الكيبك في مونتريال بكتاب «تاريخ القراءة» لمانجيل، ليظهر مدى تعلق التخييل بالتجربة الجمالية للقراءة الأدبية، علاوة على أنه سفر في المتخيل الأدبي عبر قنوات إبداعية تظهر مدى تعلق القراءة والكتابة، حتى أصبحا، في نظر برولي، وجهين لعملة واحدة.
كانت الدراسات الأدبية تولي اهتماما قطعيا بالمتخيل والإحساس؛ لأن الأدب هو المجال الوحيد، من بين مختلف المجالات، التي تهتم بالظاهرة الإنسانية؛ وبهذا جاء الشعور والدفقات الشعورية للأدباء متصلة بعوالمَ غير مرئية، وحدسية. ففي كتابات عميد الأدب طه حسين ما يبرر ذلك، أسوة بعظماء في التاريخ الأدبي الإنساني أمثال الشاعر الإنكليزي جون كيتس والشاعر ابن بلدة معرة النعمان أبي العلاء المعري. فطه حسين كان من رعيل أدباء الحاسة السادسة كما يقولون، وفيها إذكاء لملكات فطرية مخزنة في الذات والذاكرة، تعوض فتور البصر. جاء وصف السفينة، التي أقلته ـ أي عميد الأدب ـ من ميناء الإسكندرية إلى باريس سنة 1914، زاهيا بدفقات شعورية وإحساسية غنية بالمتخيل، ويتفجر هذا الأخير ينابيع ضارية، خصوصا عندما يدخل الأديب غمار باريس وملاهي باريس.
أكاديمي مغربي/ كلية الأداب والفنون/ جامعة ابن طفيل