مثّل بعض طلاب جامعة بريطانية مسرحيّة باللغة الأكادية (تسمى أيضا اللغة الأشور – بابلية) وبذلك سمعنا، لأول مرة كيف يمكن أن تنطق تلك اللغة (قبل أن تقوم الآرامية ثم العربية بالحلول محلها) بعد اندثار من يتكلمون بها منذ آلاف السنين.
العارفون بتلك اللغة، وأغلبهم أكاديميون، أعادوا إحياء الأكاديّة كما تعيد كائنا قديما بعد انقراضه. فعل ذلك فيلم كندي أيضاً باستخدامه لغة «هيدا» وهي لغة شعب بالاسم نفسه في كولومبيا البريطانيا يمكن أن يتحدث بها حوالي 20 شخصا فقط في العالم، ولا علاقة لها بأي لغة أخرى في العالم (يعرض الفيلم لأول مرة في المملكة المتحدة في هذا الشهر).
قام ميل غيبسون بذلك أيضاً بإنتاجه الفيلم الشهير «آلام المسيح» والذي تم تمثيله باستخدام لغة المسيح الآرامية، والتي ما تزال منطوقة في بضعة قرى قرب دمشق (حوالى 18 ألف نسمة)، ولافت للنظر أن إحدى حقبها تسمى «عصر التراجم» عندما انشغل الآراميون بترجمة الكتب السريانية واليونانية والفارسية إلى العربية في العصرين الأموي والعباسي.
٭ ٭ ٭
اخترعت الجماعات الإنسانية اللغات للتواصل بين أفرادها، ولكنّ اللغات استخدمت أيضاً لتحديد الحدود بحيث تصبح حاجزاً أو «شيفرة» خاصة لنخبة معيّنة لا يستطيع العامّة التحدث بها كما كان حال رجال الدين عبر العصور، وضمن دائرة «النخبة» سنجد المترجم وكذلك الجاسوس الذي تحتاج إليه الدول في قضايا الدبلوماسية والحروب.
استخدام اللغة كشيفرة هو ما فعله الأمريكيون بتوظيف أفراد من قبيلة الشيروكي من السكان الأصليين لأمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية لتبادل الرسائل السرّية في الفرقة 30 مشاة فتلك اللغة الفريدة كان صعبا على الآخرين فهمها أو اختراقها.
«الشيفرة» اللغوية هي أيضاً طريقة للتواصل بين أفراد معينين مع منعها على غيرهم، ولكنّ البشر أقاموا حواجز أكبر كما فعلت اليابان في حقبة «إيدو» (1603-1868) حيث كانت البلد بأكملها ممنوعة على أي أجنبي، وممنوع على شعبها التواصل مع شعوب أخرى، باستثناء عدد قليل جدا من الهولنديين الذي يُسمح لهم بالتجارة عبر ميناء ناغازاكي فقد كانت اليابان معزولة تماما.
ساعد اليابان كونها جزيرة، لكنّ الدكتاتور الشيوعي الألباني أنور خوجة (1944 – 1985)، حوّل بلاده إلى منطقة معزولة عن العالم رغم أنها في وسط أوروبا، فقطع علاقات بلاده مع يوغوسلافيا عام 1948، ومع الاتحاد السوفييتي عام 1960، ومع الصين عام 1976 (وكلّها كانت دولا شيوعيّة!)، وخلال الثمانينات لم يكن في ألبانيا أكثر من 12 شخصا أجنبيا فيها بمن فيهم أعضاء السلك الدبلوماسي.
كان التلفزيون الألباني مبرمجا بحيث يمنع استقبال المحطات الأجنبية، وكانت الكتب التي يسمح بترجمتها هي التي تتوافق مع رؤية الحزب الشيوعي في البلاد.
كان التلفزيون الألباني مبرمجا بحيث يمنع استقبال المحطات الأجنبية، وكانت الكتب التي يسمح بترجمتها هي التي تتوافق مع رؤية الحزب الشيوعي في البلاد.
بحسب إعلاميّ صديق فقد كان هناك موظّف مكلّف بنقل ما تكتبه وسائل الإعلام الأجنبية للمسؤولين السوريين، وكان المترجم المنتقى على أسس أمنيّة مضطرّا لنقل تحليلات وسائل الإعلام تلك عن القمع والفساد فيقوم بفتح قوس بعد كل جملة تهين الرئيس أو أجهزة استخباراته وجيشه ليردّ على الأقوال بجمل مثل: «خسئتم أيها الأوغاد. الصهيونية هي منبع الجرائم والقتل والفساد في العالم. أنتم حاقدون على رئيسنا وحكومتنا لأنهم يتصدّون لجرائمكم!» الخ.
ترجمة العالم الخارجي في الحالة الألبانية هي إلغاؤه وانتقاء ما يناسب الحكام منه، أما في حالة المترجم السوريّ ذاك فالعالم الأجنبي موجود كي نثبت أنه على خطأ.
٭ ٭ ٭
وعلى عكس اتجاه الانعزال عن العالم فقد استخدمت الإمبراطورية العثمانية منطقاً فريداً في التعامل مع الأقوام واللغات وذلك باستجلابها عشرات الآلاف من أطفال الأمم التي تحكمها ليكونوا عماد جيشها ودبلوماسييها وتجارها بالاستفادة من لغاتهم الأصليّة التي يتقنونها بعد أن تعلمهم التركيّة. لقد أصبح جيش الإمبراطورية، بهذه الطريقة، محتويا لأممها كافّة ولغاتها.
جزء من مهمّة تدريب كوادر الامبراطورية باللغات الأوروبية كان مناطا بجمهورية البندقية التي كانت تدير ما يشبه مدرسة للترجمة في إسطنبول تدعى Bailo وقد أصبح تلاميذها لاحقا أشبه بطبقة مغلقة من المترجمين، وكانوا، بشكل رئيسي، يترجمون من التركية للإيطالية وإلى العربية في بعض الأحيان، وكان التجسس والدبلوماسية والإدارة من المهام التي يقومون بها، وكان المصطلح الذي عرفوا به هو «الترجمان»، وهذا المصطلح، مع تعديلات بسيطة، موجود في كثير من اللغات، وأصلها يعود إلى لغات قديمة منها الأكاديّة وبالتالي فإن أصول هذه الكلمة يمكن تعقبها إلى ما يقرب من 5000 عام.
استحدث لقب «الترجمان الأكبر»، وهو منصب يعادل السفير، عام 1661 بأمر من الوزير الأكبر كوبرولو أحمد باشا، والذي كان من أصل ألبانيّ، وقد استخدم الكاتب الألباني الشهير إسماعيل كاداري هذه الشخصية التاريخية في عدد من رواياته، وأحد من احتلّوا منصب «الترجمان الأكبر» كان أليكساندر مافستاتوس، الذي وصل لمرتبة أقرب للأمير وأصبحت سلالته لاحقاً العائلة المالكة في رومانيا.
استخدم كثيرون الترجمة باعتبارها إلغاء للأصل، أو تحريفا مناسباً له، بينهم مترجمون فرنسيون في القرن السابع عشر، قاموا بترجمة أعمال كلاسيكية من الإغريقية أو الرومانية.
كان من مهام هؤلاء التراجمة طبعاً التواصل مع قادة الدول الأخرى، ومن المفترض أن «يترجموا» ما يطلبه السلطان منهم، وعقوبة «خيانة» أوامر السلطان الموت طبعا، لكنّ الوقائع المثبتة تقول إن الترجمان الأكبر كان «دبلوماسيّا» في الترجمة (أو «خائنا» لحرفيّة المطلوب منه)، وأحد الأمثلة التاريخية على ذلك رسالة السلطان مراد الثاني إلى الملكة إليزابيث الأولى، والتي يقول فيها أنها «أبدت خضوعها وولاءها وأعلنت خدمتها وارتباطها» بالسلطان، ولكن الترجمان استخدم كلمتي sincera amicizia بالإيطالية (أي الصديقة المخلصة)!
استخدم كثيرون الترجمة باعتبارها إلغاء للأصل، أو تحريفا مناسباً له، بينهم مترجمون فرنسيون في القرن السابع عشر قاموا بترجمة أعمال كلاسيكية من الإغريقية أو الرومانية حيث يتم حذف الكلمات التي تعبر عن أعمال جنسية، وكذلك لشرب الخمر والمثلية الجنسية أو مشاركة الأزواج والزوجات.
لقد التقط الروائي السوريّ فواز حدّاد بعض المفارقات السياسية والأدبيّة العديدة التي نحاول حكّها في هذه المقالة في كتابه «المترجم الخائن»، وهي رواية يمكن اعتبارها استعارة كبرى لمجمل السياق السياسي والأدبي السوريّ، حيث يضطرّ الجميع لـ»ترجمة» أفعالهم وأقوالهم لتتسق مع ما يتطلّبه نظام يضغط على الجميع ليتطابقوا مع رؤيته المشوّهة للحياة والعالم.
المترجم، في رواية حداد يقوم بإعادة تركيب للرواية التي يترجمها في محاولة للتوازن مع الواقع البائس، وهي في حالة «الترجمان الأكبر» بين السلطان مراد والملكة إليزابيث، خيانة يخاطر فيها المترجم بحياته ليحمي السلطان من سوء تقديره للواقع وبؤس اختياره للكلمات، ويحمي بلاده من عواقب كل ذلك.
٭ ٭ ٭
فلنطلب من «ترجمان غوغل» ترجمة هذه الجملة: «هي رئيسة أمريكية وهو ممرض فلبيني» إلى اللغة التركيّة. إذا أخذنا الجملة التركيّة وترجمناها مرّة أخرى إلى العربية سنكتشف أن غوغل ترجمها إلى: «هو رئيس أمريكي وهي ممرضة فلبينية» والسبب هو أن مبرمجو الخوارزميات في غوغل يفترضون أن الرئيس يجب أن يكون ذكرا وأن الممرض يجب أن يكون أنثى.
فهل علينا أن نستنتج أنه لا يمكن لأي ترجمة، في الحقيقة، الخروج من مواضعات السياسة والأيديولوجيا والشرط البشريّ، وأن كل المترجمين «خونة»؟
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
مرة طلبت مني ربة عملي الاوربية ان اكون مترجما بينها و بين زميلة
–
على وشك التقاعد كانت قد و عدتها بالإحتفاظ بها ضمن طاقمها بعد
–
سن التقاعد و لكنها تراجعت عن وعدها بسبب تلقيها شكايات من الحارس
–
تتهمها بالسرقة المتكررة كان علي ان انقل لها قول المشغلة الصارم
–
” كنت اود ان تستمري بيننا بعد حلول سن تقاعدك رغم المخاطر القانونية
–
و لكن بسبب سلوكات لا اقبلها لا يمكنني الاحتفاظ بك حان وقت راحتك ”
–
و لكني تصرفت في الترجمة مراعاة لصدمة التهمة و شهادة سوء الخاتمة
–
و اكتفيت بالقول انها لا تستطيع الإبقاء عليها بسبب العواقب القانونية و حسب
–
فهل كنت بذلك خائنا للترجمة ام مانعا لضرر معنوي؟
–
تحياتي
شكرا اخي “صوت من مراكش” على القصة التي هي تقدم معالجة لموضوع المقالة من الحياة اليومية. بهذا المعنى فكلنا مضطرون للترجمة في شؤون حياتنا حتى لو كنا لا نترجم من لغة لأخرى. نحن نقوم بتحرير اقوالنا واقوال غيرنا فإما نحسنها أو نجعلها أسوأ. في سوريا نقول بالعامية: المناطق سعادة. أي أن الطريقة التي تنطق بها فكرة ما هي امر باعث على السعادة (او التعاسة).
من الصعب جدا أن تكون الترجمة متطابقة مع النص المترجم قرأت 1 عدة ترجمات للقرآن الكريم لم استغلال واحدة منها واضحك كثيرا عندما اقرأ ترجمات لشعر المتنبي أو سواه. والعكس صحيح
تحياتي
اهلا اخي “سوري”. الترجمة ليست علما، وأي نص يمكن أن يترجم بمئات الطرق. النص القرآني له تفسيرات كثيرة جدا ونحن نتكلم عن اللغة نفسها فما بالك حين يترجم الى اللغات الأخرى.
لأجل هذا, فعندما يتقابل رئيسان مختلفان باللغة بهذه الأيام نشاهد وجود مترجم مع كل منهما! ولا حول ولا قوة الا بالله
عندنا باللغة النرويجية: ساعي البريد يُسمى البوست مان أي رجل البريد حتى لو كانت أنثى! وكذلك الشغالة تُسمى فاسك داما أي إمرأة الغسيل حتى لو كانت رجلاً!! ولا حول ولا قوة الا بالله
شكرا اخي الكروي داود. لقطة جميلة جدا للتعبير عن ارتباك اللغات حين يتعلق الامر بالتأنيث والتذكير.
تحية لالاستاذ حسام وللجميع
اي لغة قديمة ممكن احياءها لو كانت هناك جهة سياسية تتبناها في حال وجود شعب يتكلم بها والامر يمكن ان ينطبق على اللغة الاكادية او الارامية .امر اخر للتوضيح وهو ان الارامية والسريانية هي لغة واحدة ولكن السريانية ارتبطت بالكنيسة المسيحية وهناك من يعتبر السريانية احدى لهجات الارامية. والمتحدثون بالارامية حاليا هم الكلدانيون والاشوريون والسريان في العراق بلهجتها الشرقية وفي سوريا ولبنان بلهجتها الغربية ويتكلم بها الصابئة المندائيون بلهجتها المندائيةوهي لغة الشرق الاوسط القديمة تقريبا سابقا قبل ان تحل العربية محلها
شكرا اخي سلام عادل. حسب معرفتي فإن السريانية هي تفريع من الآرامية كما هو حال البرتغالية والاسبانية مع اللاتينية، وبالتالي يمكننا اعتبارها لغة جديدة، والآرامية القديمة، كما قلت في المقال، ما زالت موجودة اقرب ما يكون الى صيغتها الأولى في القرى السورية الثلاث القريبة من دمشق.
أستأذن المشاركة في النقاش فهذه النقطة استهلكت الكثير من سنوات بحثي. السريانية هي لهجة الشمال السوري بحدوده المعاصرة، الذي كان يتحدث الآرامية باللهجة الغربية. بالتالي هي لهجة محلية عن لهجة متفرعة عن الآرامية الامبراطورية. لما كانت الكنيسة السورية تتخذ من هطاي مركزاً لها فصارت لهجة المنطقة المحلية هي المعتمدة في الكنيسة السريانية.
اما الترجمة واللغة فالامر بينهما معقد بعض الشيء بسبب خصوصيات بعض اللغات التي لا تميز بين الذكر والانثى بالمناداة او كذلك المهن ولكن يبقى المترجم كوسيط ناقل للمعلومة او الحدث او لالاداب والعلوم هو العامل المهم فالمترجم الذكي يستطيع ان يحل الاشكال في الترجمة ولذلك فالترجمة السيئة قد تأتي بالأفكار مشوَّهة «وبذلك قد نبني أفكاراً خاطئة نقلاً عن خطأ المنقول».كما يقول الاستاذ جبرا ابراهيم جبرا