تشيع في أوساط يسارية غربية نسبة ارتفاع التوتر الحالي مع روسيا إلى أمثال جو بايدن وبوريس جونسون ممن يريدون الضغط على روسيا وعزلها تدفعهم حسابات أنانية تخصهم، وليس إلى النزعات التوسعية لروسيا في أوكرانيا وعموم المجال السوفييتي السابق، والعالم. بايدن وجونسون ليسا ممن يخلون من حسابات خاصة، قومية وشخصية، لكن إرجاع المشكلة المتفجرة في أوكرانيا وحولها إلى تطلعاتهما، وليس إلى سياسة بوتين القومية التوسعية، المعادية للديمقراطية في روسيا والعالم، والداعمة لمنظمات اليمين المتطرف في أوروبا، هو بمثابة زيغ في الرؤية له سوابق تدفع إلى الظن بخلل في التكوين. أشهر تلك السوابق التشكك الشيوعي في أيام الكومنترن بمقاصد الديمقراطيات الليبرالية في العشرية السابقة للحرب العالمية الثانية، واعتبار النازية مجرد تنويعة مثل غيرها من السياسات البرجوازية، واعتماد تكتيكات ضيقة من نوع طبقة ضد طبقة، تقوم بإرجاع التعبيرات السياسية المختلفة إلى ثنائية طبقية متصلبة، تضع الطبقة العاملة ضد الطبقة البرجوازية. قوضت هذه التكتيكات أرضية تحالفات محتملة على أسس ديمقراطية وتعددية، وهو ما آل إلى إضعاف الجميع أمام الهتلرية. هناك متلاعبون أنانيون بالفعل، لكن هناك قتلة فاشون، الأولون يستغلون ويخدعون، فيما الأخيرون يستولون ويسلبون ويمكن أن يقتلوا الملايين، والتمييز بينهما من الأولويات على ما ستثبت الحرب العالمية الثانية بعد سنوات قليلة من هذا الجدال.
على أن لهذين المثالين من تاريخ أوروبا المعاصر والراهن نظيرين من تاريخنا القريب في لبنان وسوريا. لطالما انتقد رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري على سياسته الاقتصادية الليبرالية الجديدة، التي غيرت الطابع العمراني لبيروت وأغنت شريحة ضيقة من اللبنانيين، وتوافقت مع سياسيات إقليمية عولت في حينه على «سلام عربي إسرائيلي» وعلى منافع اقتصادية تجنى منه. هذا بينما كان ينمو في لبنان غول فتي اسمه حزب الله، أقوى منذ ذلك الوقت من الجيش اللبناني، ويجاهر بأنه ممول من إيران وموال لنظامها، ويشهر في آن راية طائفية وراية قضية عامة هي المقاومة ضد إسرائيل، دون أن يبدو أن مكاسب هذا الإشهار تعود على غير هذا التشكيل الطائفي التابع، وللحكم الأسدي الذي يشبهه في سوريا. بعد حين اغتيل رفيق الحريري من قبل النظام الأمني السوري اللبناني في جريمة مروعة، سقط معه فيها أكثر من عشرين شخصاً. الغول الفتي تطور إلى غول مكتمل النمو، «أسْيد» من الدولة اللبنانية السيدة، وسيتدخل بعد سنوات في سوريا المجاورة لمصلحة دولة قومية توسعية، ويقتل ويسجن ويتاجر بالمخدرات، ويوتر الأوضاع في لبنان وسوريا والمنطقة لحساب مرجعيته الإيرانية. هنا أيضاً وجدت الحساسية اليسارية التقليدية نفسها إلى جانب القاتل ضد المستغِل، إلى جانب قوة اغتيال وترهيب وحرب ضد قوة استغلال وإعمار مشوه، في عدم تمييز عريق بين المستغل وبين القاتل، أو بين المتلاعب الأناني الذي يستغل الآخرين لمصلحته وبين الفاشي الأناني الذي يقتل الآخرين إن عارضوه.
اليوم لبنان يعيش أوضاعاً قد تكون الأسوأ منذ نشوء كيانه الحديث بعد الحرب العالمية الأولى، وبصلة مباشرة مع وجود حزب قاتل تابع لدولة أجنبية، جعل من كاتم الصوت سلاح اغتيال ومن كتم الصوت هوية له. هذا الحزب الطائفي المسلح هو حارس النظام اللبناني اليوم، وهو من وقف ضد الانتفاضة اللبنانية في خريف 2019.
حيال الأزمة الأوكرانية، تبدو الحساسية اليسارية التقليدية في الغرب استمراراً للحساسية الشيوعية قبيل وصول النازيين للسلطة، أي مناهضة للمتلاعب المعروف وقليلة الحذر حيال الطاغية القومي المتعصب
وفي تاريخ الثورة السورية لدينا مثال إضافي له الدلالة نفسها. في عامي 2013 و2014، وقت كان الجيش الحر لا يزال عنواناً جامعاً لقوى وطنية شعبية، تجمعها قضية مواجهة النظام، أخذت المجموعات السلفية الإسلامية الصاعدة، المعنية بفرض نموذجها حيثما سيطرت، تطعن فيها بوصفه حامل «راية عميّة» و«حرامي» في الوقت نفسه. رفع الإسلاميون شعاراً مسجوعاً، يقول: الجيش الحر حرامي/ بدنا الجيش الإسلامي! لم يكن الأمر يخلو من أمثلة انتهاك واستيلاء على موارد خاصة وعامة من قبل منضوين متنوعين ضمن مظلة الجيش الحر، لكن الاعتراض هنا جاء من قبل تكوينات ذات استعداد فاشي، تستولي على المجتمع ذاته مثل الحكم الأسدي وتشكله على غرارها، وتقتل من لا يوافق نموذجها. السنوات اللاحقة للمجموعات السلفية هي سنوات تغول وفجور في الاستيلاء على موارد عامة وخاصة، فضلاً عن القتل والتغييب.
رفيق الحريري والجيش الحر، كما الحكومات الأوروبية في سنوات ما بين الحربين، والأمريكية والبريطانية اليوم، مستحقون للنقد والاعتراض من مواقع تحررية وثورية. لكن ما يميزهم عن كل من حزب الله والميليشيات السلفية، كما عن البوتينية اليوم والنازية بالأمس، هو أنه لا يكاد يمكن التأثير على سياسة الأخيرين. يمكن التأثير على الحريري لا على حزب الله، وعلى الجيش الحر لا على داعش والنصرة وجيش الإسلام، وعلى الديمقراطيات البرجوازية لا على هتلر والحزب النازي، وعلى حكومة جونسون وإدارة بايدن، لا على بوتين الذي يتلجلج في الكلام معه أركان نظامه بالذات. https://www.youtube.com/watch?v=_3Z-ZoGreNI
وهو، التأثير، يحدث بالاحتجاجات الشعبية التي لا تقمع، بالأصوات الناقدة في وسائل إعلام تعددية، بالمشاورات متعددة الأطراف داخلياً ودولياً. في كل هذه الحالات ثمة ضرب من التعدد، وبالتالي الحوار الداخلي الممكن في الأطراف التي لا يمتنع التأثير عليها، أي المداولة السياسية معها، فيما لا يبدو الحال كذلك في منظمات أو سلطات أحادية الصوت ومعادية للديمقراطية. في أوج قوتهم، بدا الهتلريون والسلفيون، ويبدو البوتينيون والحزباللهيون، في سكرة تمتزج فيها العقدة بالقوة، تغنيهم عن الاستماع إلى غيرهم، ولبحث عن حلول سياسية مع الغير. لا تتغير هذه القوى بالسياسة، تتغير فقط إذا هزمت.
ويضاف إلى هذا الفارق السياسي المهم فارق أخلاقي، هو ما يمكن أن يستند إليه لتحديد الموقف الصحيح، الذي لا يقتضي بحال الوقوف إلى جانب الحريري أو الجيش الحر، ولا إلى جانب جونسون وبايدن، ولا الديمقراطيات البرجوازية قبيل الحرب العالمية الثانية. أعني النظر إلى حقول الصراع في الأمثلة المذكورة من موقع الضحايا، من موقع الأوكرانيين اليوم، والسوريين المقاومين لحكم الإبادة الأسدي، واللبنانيين المتطلعين إلى استقلال بلدهم واحتكار الدولة للعنف فيه، وللبلدان الأوروبية الأصغر في أيام صعود النازية (تشيكوسلوفاكيا وبولندا…) كما للجماعات الدينية والأثنية الأكثر هشاشة في ألمانيا نفسها، وفي أوربا بأسرها.
حيال الأزمة الأوكرانية، وهي مناسبة كتابة هذه السطور، تبدو الحساسية اليسارية التقليدية في الغرب استمراراً للحساسية الشيوعية قبيل وصول النازيين للسلطة، أي مناهضة للمتلاعب المعروف وقليلة الحذر حيال الطاغية القومي المتعصب، الذي يسمم معارضيه ويعتقلهم ويعذبهم، هذا حين لا يكون بعض حملة هذه الحساسية متحمسين له بالأحرى. في ذلك ما يثير سؤالاً عن إمكانية وجود يسار يناضل ضد المتلاعب المستغل، لكن لا يغويه القاتل الجماعي في بلده أو في بلدان أخرى. قبل أوكرانيا، كانت سوريا امتحاناً عرض فيه هذا الصنف من اليسار فشلاً عظيماً في الفهم وفي الإحساس وفي السياسة، تمتد جذوره في ما يبدو تكويناً راسخاً لليسار الغربي وتفكيره في الشؤون الدولية: السياسة العليا المتمركزة حول الدول، اللوثة الامبريالية التي تلحق كل القضايا بمعركة كبرى ضد الامبريالية يقررها ويخوضها (لا يخوضها في الواقع) ويحتكر تحليلها أمثالهم، مزيج من الغطرسة والجهل في شؤون البلدان والمجتمعات البعيدة، ثم عدم النظر من موقع الضحايا.
هذا التكوين فاشل. للجماعة مشكلات مع نخب بلدانهم، وقلما يستطيعون النظر إلى مشكلات بلدان أخرى من موقع يضع مشكلاتهم في بلدانهم بين قوسين، ولو مؤقتاً وبهدف الفهم. هذا يسوقهم بثبات إلى مواقع أقرب إلى القاتل، انطلاقاً من الاعتراض على المتلاعب الأناني. أما الضحايا فلا يُروْن.
كاتب سوري
شكرا على هدا المقال الرائع
أنا متابع للثورة السورية منذ بدايتها. و لم أرى و لا اذكر بأن الاسلاميين رفعوا الشعار الذي يذكره الاستاذ الفيلسوف المتفلسف ياسين الحاج متولي: «الجيش الحر حرامي … بدنا الجيش الإسلامي».
و لكن عندما يكتب الاستاذ الحاج متولي على الفيسبوك و أقتبس حرفياً: «أنا مع حقوق الاقليات بس استاذ سامي و مع الضمانات بس لإلهن. العرب و المسلمين السنّة كتار، شو بيصير إذا قل عددهم شوي أو شويتين»؟ فبماذا يختلف الحاج صالح عن إجرام الروس و طائفية حزب الله اللذين ينتقدهم في مقاله؟
أخي سامي الصوفي. أنا لم أمن فقط متابعًا للثورة بل مشاركًا بها من ألمانيا وليس في سوريا طبعًا. بغض التظر عن الشعار الذي لم أسمعه أنا أيضًا لقد كان التطرف الإسلامي يرى الفرصة قد حانت له للسيطرة على الوضع في سوريا بل وربما كان في حسابهم أنها ستكون دولة “إسلامية” وكل فصيل منهم حسب تصوراته. جيش الإسلام، جبهة النصرة، وداعش وفصائل أخرى متعددة ومدعومة من بعض الدول. بغض النظر الأن عن الأخوان المسلنين الذين لهم قصة أخرى. وكما نعلم جبهة النصرة طردت بعض الفصائل المحسوبة على الجيش الحر من ادلب ولم يكن لمل هذه الفصائل إلا تصور واحد هو ابعاد الجيش الخر واعتباره “علماني” أي صف التظام مع أن برامجهم هم وتصوراتهم هم هي الإقصائية الاي تشبه التظام. فلنك واقعيبن الإسلامين استغلوا الثورة بل وبدعم من التظام لضرب الثورة والحيش مان عدو بالنسبة لهم وقد حاولت أنا بنفسي وفي المنطقة التي انتمي إليها أي الحفة وجبل صهيون التحذير مثيرًا من هذا فخ مايسمى “الإسلاميين” دون جدوى وأعتقد كانوا ضربة للثورة السوزية وكما أراد لهم الأسد أن يكونوا! بكل أسف.
السؤال هو كيف يمكن النضال بشكل اخلاقي ضد المتلاعب و ضد القاتل بنفس الوقت ….و السؤال الاهم أليس المتلاعب اليوم هو قاتل الامس في العراق و افغانستان ….هل يوجد فرق بين المتلاعب و القاتل …ام انه فقط تبدل للادوار …. الحكم الدكتاتوري هو مكشوف …اما القتله و المتلاعبون الذين يلبسون قناع الديمقراطيه فهؤلاء الذين يستجرون تعاطف المثيقف العربي مع الاسف …. الا يوجد نقطة توازن يقف فيها الانسان في نفس الوقت ضد القاتل و المتلاعب ؟؟
أنت تقولها ياأخي بشير محمد المتلاعب اليوم هو القاتل بالأمس والقاتل اليوم هو المتلاعب بالأمس فكلهم قتله والوقوف إلى جانب أيًا منهم ليس فقط لاأخلاقي بل عاري عن الصحة والفهم. الشعب السوري لم تحركه واشنطن والإمبريالية كنا يدعي الذين وقفوا مع القاتل وكان شعار الشعب السوري “مالنا غيرك ياالله” وشعار الشليح الأسد أو نحرق البلد!، فهل يوجد مخلوق على وجه الأرض يستطيع أن يقف إلى جانب جزار دموي أو يبرر بأي سبب مهما كان من العبقرية المفلطحة هذا الإجرام الذي فعله النظام. وكل هذا الإجرام هذا لمحاربة الإمبريالية! يازلمي هذا أكبر دعم لقيّم ومبادئ الإمبريالية أصلًا، قدمه لهم صديقهم الضمني يشار الأسد، حيث كما نعلم اولبرايت وزيرة خارجية أمريكا أنذاك هي التي توجت بشار الأسد في الرئاسة!
الاخ بشير ، سؤال جيد ونظريا يبدو كلامكم منطقية وسليما . اراضي الضفة الغربية في فلسطين تمثل حالة جيدة ومناسبة للإجابة على هذا السؤال. قبل مرحلة ابو مازن ارتكبت اخطاء كثيرة بسبب عدم المفاضلة هذه ، الانتفاضة الثانية سياسيا كانت خطأ ، اضعفت وانهكت الفلسطينيين بدون اي عائد او انجاز سياسي ذا معنى . المشكلة أن السياسة أيضا هي إجابات سريعة على أحداث راهنة ومباشرة تتعلق بيمعاناة والأم البشر، أنت أمام خيارات كلها قاتمة وسيئة، احيانا كثيرة واغلبها في الواقع ليس بالإمكان عمل الشيء الكثير سوى اختيار الاقل سوءا ، وهذا ليس بعيدا عن الفكرة المركزية التي يناقشوها المقال .
يحق لنا الادعاء ان ما يطرحه ياسين الحاج صالح او ما قد يطرحه مستقبلًا هي افكار ورؤى تعمدت ب 16 عاما قضاها في سجون الدولة السورية ، وعندما سألته الصحفية جيزيل خوري أرملة طيب الذكر سمير قصير حول تلك الفترة التي قضاها هناك ومقاومته لعتمات السجن اجاب : اما أن ينتصر علي السجن للجنون او الموت أو أن أن انتصر أنا عليه للحياة .
الاصولية الماركسية والاصولية الدينية والاصولية القومية تثبت دائما اصاباتها بالعمى وعدم رؤية الناس ومعاناتهم، فالافكار الكبيرة أهم من البشر ومن تطلعاتهم، وما يجري في أوكرانيا اليوم مثل ما جرى ويجري في سورية مسيرة متواصلة للاستبداد المدعوم من النخب المخدرة بهذه الاصوليات!