يُحيّرُنا المُتنبّي حين نغوص في عوالمهِ الرحبة، ويثير داخلنا أسئلة كثيرة، كيف نلتقط الجمالي؟ ومن أين نلتقطهُ؟ فهو الشاعر العظيم، والجماليّات الكاملة كامنة في شعرهِ، إنَّ المطلعَ على تجربة المتنبي، يلحظُ ذاك الفضاء الواسع من روعة الصورة والخيال، وبلاغة الكلمة وقوّة الصياغة. هو الشاعر الذي قُتلَ بسببِ المعنى الصقيل في شعرهِ، لذلك يجد القارئ نفسهُ أمام شاعرٍ خالدٍ لا يتكرر في تاريخ الشعر العربي قديمهُ وحديثهُ، أُولى أبياتهِ الخالدة:
أنَا الذي نَظَـرَ الأعْمَـى إلى أدَبـي وَأسْمَعَتْ كَلِماتـي مَنْ بـهِ صَمَـمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُونـي عَـنْ شَوَارِدِهَـا وَيَسْهَـرُ الخَلْـقُ جَرّاهَـا وَيخْتَصِـمُ
وَجاهِلٍ مَـدّهُ فِي جَهْلِـهِ ضَحِكـي حَتَّـى أتَتْـه يَـدٌ فَـرّاسَـةٌ وَفَـم
إذا رَأيْـتَ نُيُـوبَ اللّيْـثِ بـارِزة فَـلا تَظُـنّـنّ أنّ اللّيْـثَ يَبْتَسِـمُ
تحتوي هذه الأبيات على جماليّةٍ خاصةٍ في وصف شخصيّة المتنبّي، وجرأتهِ على تصوير ذاتهِ، وثقتهِ الكبيرة والمتينة في نفسهِ، فهي على لسانِ النّاسِ أينما كانوا، يستشهدون بها في جميع المناسبات التي تتناسب معها، والـ» أنا» الذاتية في المطلعِ، تثبتْ رمزيّة المفاخرة في قدراتهِ الإبداعية التي لا تعرف حُدوداً، فمن حقّهِ أن يطرح هذا المعنى برأينا، لأنّهُ الشاعر العظيم، وكلماتهِ استطاعت أن تخلد، يختم :
ألخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـي وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ
أمّا الأبيات الأخرى التي اشتهرت لهُ أيضاً، وأصبحت حِكَماً ترشدنا إلى الوعي الإنساني، منها:
رَماني الدَهرُ بِالأَرزاءِ حَتّى فُؤادي في غِشاءٍ مِن نِبالِ
فَصِرتُ إِذا أَصابَتني سِهامٌ تَكَسَّرَتِ النِصالُ عَلى النِصالِ
وَهانَ فَما أُبالي بِالرَزايا لأنّي ما انتفعتُ بأن أُبالي
وَهَذا أَوَّلُ الناعينَ طُرّاً لأوّلِ ميتةٍ في ذا الجلالِ
توحي لنا الأبيات الماثلة أمامنا، التحدّي والصمود في المعركة، وفيها من المفاخرة والشجاعة والرجولة، فهو الذي إذا أصابتهُ السهامُ / تكسّرتِ النصالُ على النِّصالِ كما قال، كأنّهُ يقولُ: لا تستطيع السهام إصابتهُ، فإذا أصابتهُ لن تقتلهُ، بل تنكسر وتفنى حدَّتها. عندما كان ينشد هذا الشعر في المعارك، كان يشحن الجنودَ بالقوّة والثقة لتحقيق النصر، الأبيات عكست الفِكر المُحفز، وانتشال النفس من حضيضِ الهزيمة، إلى قمّةِ الوعي، هذه هي القوّة الحقيقيّة التي يصنعها الشعر.
أرقٌ عَلى أَرَقٍ وَمِثلِيَ يَأرَقُ وَجَوىً يَزيدُ وَعَبرَةٌ تَتَرَقرَقُ
جُهدُ الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَما أَرى عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِقُ
ما لاحَ بَرقٌ أَو تَرَنَّمَ طائِرٌ إِلّا اِنثَنَيتُ وَلي فُؤادٌ شَيِّقُ
جَرَّبتُ مِن نارِ الهَوى ما تَنطَفي نارُ الغَضى وَتَكِلُّ عَمّا تُحرِقُ
تشتهر هذه الأبيات بروعةِ الصورة الشعريّة فيها، وألفاظها الحديثة، وتعبّر عمّا تختلجهُ النفس من أرقٍ وصبابة وجوى، هذه مصطلحات جُرح الوجدان، لكنّهُ سرعان ما يُحاول مُواساة ذاتهِ، يقولُ: إلا انثنيتُ ولي فؤادٌ شيّقُ، هي محاولة لمداواة الانثناءِ بالفؤاد الشيّق/ الحي، والقلب الذي يخفق، يضخُّ الدم كي يحيا الحُب، الحُب يعني الحياة الجميلة.
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيم
سَتَبكي شَجوَها فَرَسي وَمُهري صَفائِحُ دَمعُها ماءُ الجُسومِ
قَرَبنَ النارَ ثُمَّ نَشَأنَ فيها كَما نَشَأَ العَذارى في النَعيمِ
تألّقت هذه القصيدة بالحكمة والتشبيه، واشتهرت بين الناس تحثَّهم على الوعي المطلق، وترشدهم إلى الصواب بالتفكيرِ السليم، كما أنّها تُحفظ عن ظهرِ قلبٍ من جمالِ ألفاظها البديعة وإيقاعها العفويِّ الحر، فطعم الموتِ في الأمرين، الصغير والعظيمِ يتشابهان حسب مقصد الشاعر، لأنّ الموتَ واحدٌ، إن كان موت الملك أم العبد، فكلُّ كائنٍ مهما كبُر أم صَغُر شأنهُ يكون نهايتهُ الموت لا محاله.
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ
رَأَيتُكُم لا يَصونُ العِرضَ جارُكُمُ وَلا يَدِرُّ عَلى مَرعاكُمُ اللَبَنُ
جَزاءُ كُلِّ قَريبٍ مِنكُمُ مَلَلٌ وَحَظُّ كُلِّ مُحِبٍّ مِنكُمُ ضَغَنُ
وَتَغضَبونَ عَلى مَن نالَ رِفدَكُمُ حَتّى يُعاقِبَهُ التَنغيصُ وَالمِنَنُ
البيت المطلع قد يكون أكثر الأبيات شهرةً، أثّر بشكلٍ كبيرٍ في عامة النّاس، حيث أدى دور المرشدِ في المجتمع، ليس كلُّ ما نتمنّاه يحصل، الرياح تهبُّ بما لا تشتهيهِ السفن، إذن، علينا أن نترك الأمور تسير بمشيئة الخالق، نحن نتمنى، لكن يجب أن لا نصدّق أمنياتنا بالضرورة.
وَاحَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدي وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ
إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ
مدح سيف الدولة بهذهِ الأبيات في حلب، وانتشرت كرائعةٍ من روائعهِ التي خلدت في وجدان القارئ، وتوحي بامتزاج الحرب والحب في بلاط سيف الدولة، السيوفُ، الدمُ، كما أيضاً، عبّرت عن علاقة المتنبّي بسيّدهِ في تلك الحقبة التي عاشها هناك، وفيها من التشبيه والتراكيب الشعرية ما جعلها تخلد لحياةٍ أخرى.
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرْداءُ قَيْدودُ
وَكَانَ أطيَبَ مِنْ سَيفي مُعانَقَةً أشْبَاهُ رَوْنَقِهِ الغِيدُ الأمَاليدُ
العيدُ أيضاً، لم يغب عن شعرِ المتنبي، قال فيهِ هذه الأبيات التي ردّدها الناسُ في وصفِ حالتهم أيام العيدِ، وصارت حال العيد في كلِّ عامٍ يأتي، كما تحكي حال غياب الأحباب في أيام الفرحِ، من رحلوا عنهُ، والعيد عند المتنبّي هو جمعة الأحبة مع بعضهم بعضا كما وصف، فدونهم الأرضُ جرداءُ،» أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ / فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ».
الأبياتُ الخالداتُ التي اشتهرت للمتنبّي كثيرة، ذكرنا أهمّها في الموضوعِ، لكنّ شعرهُ ملءَ الدُّنيا وشغل النّاس كما المعروف، لم نجد شاعراً أو باحثاً بالشأن الأدبي لم يتعمّق بهِ، هو مصدرِ الشعر العربي الأوّل، وشعرهُ فرضَ سيطرتهُ على ذائقةِ العربية، ممّا تأثر به الشعراء مثل عامّة الناس كثيراً على مرِّ العصور.
كاتب فلسطيني
وفى القران وهدى الرسول عليه الصلاة والسلام نقتدى
يَهُونُ عَلَيْنَا أنْ تُصابَ جُسُومُنَا وَتَسْلَمَ أعْراضٌ لَنَا وَعُقُولُ
هذا البيت هو الذى ينطبق على حال العرب المسلمين بعد ما حل بديارهم من دمار بيد الاعداء و الخونه
من العرب
اذا بقيت العقول سليمه ولم تدنس بالفكر المنهزم والاعراض سليمه فان جرح الاجسام يعافى و الديار تبنى
صفقة القرن تصدت لها العقول السليمه ورحم الله المتنبى
مقال جميل لكن أختلف مع حضرتك بقولك : ( هو مصدرِ الشعر العربي الأوّل ).مصدرالشعر الأوّل امرؤ القيس لا مزيد.أما المتنبيّ فهو الثاني وإنْ زاد.وكلاهما أصله من كندة الملوك.مع التقدير والودّ.