موجة التغيير الديمقراطي التي اكتسحت أكثر من بلد غربي في أواخر القرن العشرين اعتبرها كثيرون انتصارا يُبرر انهيار الأنظمة الشيوعية وسياسات التمييز العنصري ونُظُم الحزب الواحد والحكم التوتاليتاري المطلق، بالنظر إلى تحديات بناء الأمن العالمي وخلق مجتمع عالمي متكامل.
الأمر الذي دفع إلى تقدير أن تفكك الاتحاد السوفييتي، وما تزامن معه من انحلال كل من يوغوسلافيا وإثيوبيا وتشيكوسلوفاكيا أدى إلى توسيع العضوية في المجتمع الدولي بما يزيد على 180 دولة، بعد أن كانت النسبة في حدودها الدنيا. وهو ما أنتج مجتمعا دوليا من دون أي ثغرات متفرقة خلاله، من قبيل وجود حكومة منعزلة يشكلها السكان الأصليون، أو سلطة قانونية تفرضها قوة استعمارية، ومن دون أي قوة مهيمنة خارجية. فهل نحن أمام مجتمع يستند إلى سيادة الأقطار المحلية؟ وإلى مجموعة مشتركة من الأحكام التي يتجسد أهمها في ميثاق أممي؟ ثم هل يمكن الإقرار اليوم بأن هناك مجتمعا دوليا واحدا جامعا على نطاق عالمي؟ مثلما يذهب إلى ذلك بعض المفكرين.
من البين أن «وكالات نظام الحكم العالمي» تعاني العديد من مظاهر العجز الديمقراطي والفقر القيمي والعوز الأخلاقي، لارتباطها بمنطق السوق التجارية والهيمنة الاقتصادية، فالديمقراطية العالمية تتحقق من منظور رأسمالي وفق دعاة مبدأ الحرية واللَبْرلة الاقتصادية، عندما يصوت المستهلكون والرأسماليون بنقودهم من أجل الحصول على أقصى مردود لأموالهم في الأسواق العالمية. وهؤلاء يرون في المال والمادة غاية المنتهى على صعيد السياسة، ورغم أن سيادة الدول وحقوق الشعوب مؤكدة على النطاق العالمي، إلا إن خرق المواثيق الدولية التي تدعو لها يجري بوتيرة متسارعة، ويتسبب في «مشكلات المجتمع الدولي المعاصر». فهناك دول لا تدفع في اتجاه السلم والأمن العالميين، وهي أبعد ما تكون عن القيم والمعايير الجوهرية للمجتمع الدولي المعاصر، تنتهك سيادة الدول، وتتدخل في شؤون غيرها، ولا تحترم حق تقرير المصير. بهذا المعنى يحوي «المجتمع الدولي العالمي» أكثر من أي وقت سابق ما يوصف «بالفوضى المعيارية من الحقوق والمسؤوليات اللامتبادلة»، وهو ما لم تكن تحويه المجتمعات الدولية السابقة، المؤلفة من دول متفاوتة بدورها في مستويات التقدم. وقد أدى التفاوت الاقتصادي والاجتماعي الكبير الحاصل في السنوات الأخيرة إلى بروز نظرية وتطبيق يرى أمثال روبرت اتش جاكسون، أنها فارقة لم يسبق لها مثيل، خاصة على صعيد المعونات الدولية، حيث تُدعى الدول الغنية بموجبها إلى تخفيف وطأة الفقر ومساعدة الدول المحتاجة، ولكن هذا الأمر أدى بدوره إلى تغيير المفاهيم الأخلاقية للمجتمع الدولي، من المفهوم القديم المستند إلى مبدأي «الاعتماد على الذات» و»المعاملة بالمثل»، إلى المفهوم الجديد الذي أصبح يستند إلى ممارسة الاعتماد على الإحسان الدولي، وتغييب المعاملة بالمثل ومنطق الندية خاصة حين يتعلق الأمر بالدول النامية والفقيرة.
رغم أن سيادة الدول وحقوق الشعوب مؤكدة على النطاق العالمي، إلا إن خرق المواثيق الدولية التي تدعو لها يجري بوتيرة متسارعة
وهنا تحديدا بدأ يتجلى بعض من مظاهر أخرى للاستعباد والسيطرة ومصادرة القرار الوطني، تحت وطأة المساعدات الخارجية المكبلة في أبجدياتها. ويبدو أن المعايير المزدوجة التي اصطبغت بها الدول الكبرى الراغبة في الهيمنة، تلك التي تمظهرت منذ القرن التاسع عشر، تتواصل إلى اليوم. فالعنفوان الأوروبي والغربي عموما اعتمد سياسة «البناء» في داخل الغرب و»الهدم» خارجه، بتعبير حسن حنفي، العقل والعلم والحرية والتكنولوجيا الوظيفية والديمقراطية في الداخل، والأسطورة والخرافة والقهر والتسلط في الخارج. وبهذا حدث التعطيل والمنع في أغلب الأحيان، عندما حاولت حضارات غير غربية أن تصبح حديثة، من دون أن تكون غربية، وهي تواصل محاولة الحصول على الثروة والتكنولوجيا والآلات والمهارات والأسلحة التي تُشكل جزءا من الحداثة، ضمن رهان التوفيق بينها وبين قيمها وثقافتها. ولم يتردد المثقفون إزاء السياسات العالمية في تقديم رؤى حول عودة النزاعات التقليدية باسم الحداثة التي تخفي الهيمنة الإمبريالية. وتكشف العقود الأخيرة عن سيطرة الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، وعن تطور النزاع بين الثقافات والقوميات المختلفة. وفي الأثناء أصبحت القيم الغربية خارج حدود جغرافيتها أدوات للتطويع والتبشير والإلهاء والخداع وشق الصف الوطني، وشحذ نوازع الإقصاء المتبادل بين المنبهرين بالغرب باسم العَلمانية والتنوير والحداثة والعلم والعقلانية، ضد ما يعتبرونه أصولية وسلفية وظلامية وتعصب ديني وعنف وانغلاق وتخلف، وبين من يدافع عن قيمه الثقافية وأصوله الحضارية الموروثة، ضد ما يراه انبتاتا وانسلاخا ومحاولات تدجين وضياع ومتاهة لا مبرر لها. اتساقا مع كل ما سبق، على المجتمع الدولي أن يعيد إرساء معايير عالمية حقيقية في التعامل بين الدول يكون أهمها تلك التي تقدس الإنسان وتصونه بصرف النظر عن جنسيات البشر وانتماءاتهم الثقافية أو القومية. وما لم يحدث ذلك فإن هذا المجتمع لن يكون إطارا اجتماعيا عالميا حاضنا للقيم المشتركة، وإنما ستتواصل مشكلات السياسة ونزاعات العلاقات الدولية.
كاتب تونسي
هذا المقال جيد جدا