المجتمع السياسي الأمريكي: الأزمات البنيوية وتأثيراتها الخارجية

شكّلت الانتخابات الرئاسية الأمريكية لحظة حاسمة بالنسبة للحزب الديمقراطي، الذي ألقى اللوم على تأخر جو بايدن في الانسحاب من سباق الرئاسة. ولكن الديمقراطيين لم يتلمسوا بشكل عملي تأثير الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها ضد الأبرياء في غزة على خيارات الناخبين، وهذا ما حصل، فقد شكلت الانتخابات فرصة لمعاقبة هذه الإدارة الحاكمة، التي لم تنجح في تحقيق أدنى مستوى من الاستقرار أو الحلول السياسية قبل موعد الانتخابات.
كلا الحزبين السياسيين في أمريكا، جنحا نحو تبعية أكبر لمصالحهما، لدرجة أنه بالنظر إلى التطرف الذي وصل إليه الجمهوريون وحتى الديمقراطيون اليوم، يمكن بالكاد اعتبارهما حزبين سياسيين. وأي شخصٍ يجد ذلك أمرا مثيرا للدهشة، فهو غير مطّلع على المجتمع الأمريكي وكيف يعمل، إذ أنّ الهجوم الرئيسي على مؤسسات وقيم الديمقراطية الليبرالية يتم من قبل طبقات الأعمال القوية، التي أخذت في التصاعد منذ عهد ريغان. يبدو أنّ التحالفات الحزبية التي حددت الفرق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري لعقود منذ منتصف القرن العشرين، انهارت منذ فترة طويلة. وعلى مدى نصف القرن الماضي، تغيّرت تكتلات الناخبين الذين كانوا يصوتون لهما تقليديّا، تبعا للتحولات الأيديولوجية والديمغرافية والاقتصادية والجغرافية والثقافية. وإعادة تجميع الائتلافات الديمقراطية والجمهورية الجديدة، على وشك الانتهاء.

لا فرق في التعامل مع المنطقة بالنسبة للإدارتين الجمهورية والديمقراطية، كلاهما يشتركان في النهب والسلب ودعم كيان وظيفي إحلالي فاشي يحقق مصالح أمريكا في المنطقة العربية

أصدق مفكريهم، نعوا «وفاة الديمقراطية الأمريكية»، وذلك في فترة حكم دونالد ترامب أساسا. وها هو ترامب يعود لحكم أمريكا. ولكن المتاعب الحقيقية في أمريكا تبقى قائمة، وهي تتأتى بسبب «الإحباط والسخط والغضب المبرّر وغياب أي استجابة متماسكة». استشعر ذلك المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، وأيضا المؤرّخ الأمريكي نيل جابلر ومايكل ليند وغيرهم. فأولئك الذين أنشأوا النظام الحاكم، واستفادوا منه، يعملون بلا هوادة للحفاظ عليه، حتى لو تطلّب ذلك تشديد القمع والتّسلط من أجل الحفاظ على المزايا نفسها. بينما تعمل القوى الشعبية في جميع أنحاء العالم على خلق مجتمع أكثر عدلا وإنسانية. إنها نوع من الحرب الطبقية على نطاق عالمي، مع نتائج غير مؤكدة أقلّها على المدى القريب. ما رافق وصول دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة في الفترة الأولى، من مسارات التحول المعادي للديمقراطية، ومعاناة المهجرين والأقليات واللاجئين، ومشاكل حقوق الإنسان وتغييب مبادئ القانون الدولي الإنساني، قد تتكرر مظاهره وربما تتعمق هذه المرة مع عودته إلى البيت الأبيض، ولكن في المقابل ماذا حقق الديمقراطيون في كل هذه المجالات؟ يكفي مشاركتهم في تدمير غزة، ودعم مجازر الاحتلال، في إسقاط كل ادعاءات حقوق الإنسان والديمقراطية، التي لم يبقَ منها إلا الاسم لهذا الحزب. لا فرق إذن في التعامل مع المنطقة بالنسبة للإدارتين الجمهورية والديمقراطية، كلاهما يشتركان في النهب والسلب ودعم كيان وظيفي إحلالي فاشي يحقق مصالح أمريكا في المنطقة.
دون ذلك لم تهتم الولايات المتحدة يوما بالشعوب وحقها في الحياة الكريمة، ولم تبد أي خطوة للسلام وتحقيق الاستقرار ودعم تحرير فلسطين، وحقها في أن تكون دولة مستقلة وحرة. إجمالا الانقسام داخل أمريكا في الوقت الراهن سيستمر، ولن يخفيه تهنئة كامالا هاريس لترامب، واعترافها بالهزيمة في مكالمة باهتة. هذا الانقسام قائم على أسس أيديولوجية وثقافية واقتصادي. وهناك شعور واضح بالأزمة في الديمقراطيات الغربية عموما، بدءا من صعود الأحزاب الشعبوية اليمينية، في عدة أجزاء من أوروبا، وتآكل الضوابط والتوازنات الدستورية في المجر وبولندا، بشهادة دول أوروبية نفسها. وأيضا التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكان دونالد ترامب أبرز من شجع عليه. تلك هي المشكلة التي أشار لها كيم هولمز بين الهويات السياسية المستقطبة والمؤسسات السياسية المستقطبة هي الأخرى، التي تقود النظام الأمريكي نحو الأزمة. إذا تعثرت الديمقراطية، فإن تآكلها أو انهيارها، يجب أن يُعزى بطريقة ما إلى أخطاء الرأي العام، في تقدير أستاذ العلوم السياسية والقانون لاري بارتلز. بغض النظر عما إذا كان المنطق يمضي قدما، من تقلبات الرأي العام إلى عواقبها المفترضة، أو إلى الوراء، من فشل المؤسسات الديمقراطية إلى أسبابها، فإن الارتباط المنطقي الذي يحكم العلاقة بين الرأي العام وأزمات الديمقراطية توفره «النظرية الشعبية»، التي عبر عنها إبراهام لنكولن «حكومة الشعب، من الشعب، لأجل الشعب».
يبدو أنّ تداخلات الفواعل الدّولية في بناء عالم ما بعد كورونا، هو أمرٌ يحتّم نزوعا لحظيا نحو الصراع بدل التوافق. وسينتج عنه تراجع قوى عالمية على حسابِ اتحادات جهوية وإقليمية على نحو إعادة تشكيل العالم بفواعل دولية قديمة، لا تتغيّر استراتيجيتها القائمة على القوة والسيطرة والتحكم. في المحصّلة، الإدارة الأمريكية مع دونالد ترامب، عراب التطبيع في المنطقة، ستراهن على مشروع التطبيع الذي يُعدّ جائزة الكيان ما بعد الحرب، وينتج نوعا من الاستقرار لأمن إسرائيل، الذي يشكّل نقطة انطلاق لمشاريع التطبيع مع الدول الخليجية، باستثناء قطر والكويت أيضا. وستحاول هذه الإدارة إعادة بناء الردع والسمعة الأمريكية والإسرائيلية التي تأثرت بفعل طوفان الأقصى، وتداعيات الحروب التي تخوضها إسرائيل، وخسائرها الفادحة إلى جانب الكلفة الباهظة للدعم الأمريكي العسكري والاقتصادي، ومشاكل التجارة البحرية مع تأثير عمليات الحوثيين على الحركة التجارية في المنطقة، والممرات المائية في البحر الأحمر، بالإضافة إلى الرهان الكبير وهو احتواء نفوذ الصين وروسيا في الشرق الأوسط أساسا. الإدارة الحالية المنتهية تركت الولايات المتحدة تتأرجح بين أكثر من خيار، على اعتبار التوتر في أكثر من جبهة، وأزيد من مجال جغرافي شرقا وغربا. والصعوبة التي ستواجهها الإدارة اللاحقة هي في الحفاظ على التوازنات، دون التورط في حروب فاشلة كسابقاتها، ولكن نعلم أنّ ما يهمّ دونالد ترامب هو، الأموال وليس الحروب. ولن يستمر في إدارة التصعيد دون مستوى الحرب الشاملة، بل سيعمل على إيقاف تورط أمريكا في حروب خارجية غير ذات جدوى.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية