أدت دائرة المخابرات العامة الأردنية أدواراً مهمة خلال تاريخها، وحظيت بسمعة طيبة على مستوى العمل الاستخباراتي في المنطقة، واستطاعت أن تؤدي أدواراً واسعة على المستوى الإقليمي، ومع ذلك لم تتمكن من أن تبني علاقة إيجابية مع الأوساط السياسية في الأردنية، فلم يتم توزيع أدوار الأمن الداخلي والخارجي بين جهازين، كما هي العادة في العديد من الدول حول العالم.
مع تأسيس جهاز المخابرات الأردنية، كانت المملكة تتعايش مع ثلاثة محاور رئيسية، وأخرى فرعية أقل تأثيراً، أما المحاور الرئيسية فكانت المقاومة الفلسطينية، التي لقيت دعماً عربياً واسعاً مع تأسيسها، وكانت التنظيمات الفلسطينية تحمل عن الدول العربية عبء الفعل المقاوم، بينما يتحمل الأردن وحده تقريباً الأعباء الأمنية، وبجانب ذلك كان مشروعان قوميان يتنافسان على استقطاب الأردن، الناصري في مصر، والبعثي في سوريا والعراق، وكانت هذه المشاريع تجد مناصرين في الداخل الأردني، وبجانب هذه المحاور الرئيسية، كان الإسلاميون يصعّدون من أدوارهم بعد أن أصبحوا جزءاً من منظومة مكافحة الشيوعية، وفي المقابل كانت القوى اليسارية والشيوعيون تحديداً، يحظون بالدعم من الاتحاد السوفييتي معنوياً في الحد الأدنى.
السلطة مغرية، والمعلومة أكثر إغراء، ولا يمكن أن ترفض دائرة المخابرات أي معلومة من أي طرف
هذه الصورة تفككت مع الوقت، والمشهد لم يعد على هذا القدر من التعقيد، فالتنظيمات الفلسطينية رحلت إلى بيروت، ومنها إلى تونس، وتراجع دورها بعد ذلك، وانطوى تأثير المشاريع القومية. واليساريون تحولوا إلى جزء من التاريخ. ويبقى ملف الإسلام السياسي ملفاً إقليمياً في جانب منه، وفي الأردن يعتبر الملف مستقراً إلى حد بعيد، وبالتالي، تتبقى ملفات الإرهاب والأمن بالمعنى الشمولي، وهو ما يقع في ذروة اختصاص الدائرة. كل هذه الاعتبارات حضرت في الرسالة الملكية الأخيرة لمدير دائرة المخابرات العامة، التي حملت توجيهاً واضحاً للتخفف من أعباء تقليدية كانت ملقاة على عاتق الدائرة، وكانت تؤثر في سمعتها بين الأردنيين، فالدائرة خلال عقود من الزمن تحولت إلى حائط للاختباء، فالجميع يتحدث عن دورها وعن سلطتها، فالمنع يتم بإيعاز من الدائرة، وفلان لا يحظى بدعم الدائرة، والآخر تدعمه، وهكذا، مع أن أحداً لا يمكن أن يقف على رأي الدائرة بصورة حقيقية، ومع أن الدائرة أعلنت سنة 2012 في تصريح لمديرها في ذلك الوقت سميح عصفورة، أنها لن تتدخل في أمور التعيين أو شؤون المؤسسات كما كانت الأمور في السبعينيات والثمانينيات، إلا أن المشكلة مازالت في المؤسسات الأخرى، التي تراسل الدائرة من أجل الحصول على رأيها في بعض التعيينات، خاصة في المناصب القيادية، وهو الأمر الذي كانت الرسالة الملكية تركز عليه بصورة واضحة، فالدائرة ليس عليها أن تتحول إلى مكان للاختباء للمؤسسات الأخرى. السلطة مغرية، والمعلومة أكثر إغراء، ولا يمكن أن ترفض دائرة المخابرات أي معلومة من أي طرف، والازدحام بالسلطة والمعلومة ليس جيداً بالمطلق، وللأسف لا تتوقف المسألة عند المؤسسات نفسها، ولكن في ثقافة المجتمع الأردني، الذي يلجأ للدائرة في مواقع كثيرة، ويلومها كثيراً، وللأسف، فإن الاختباء وراء المخابرات يشبه حالة أخرى تحدث مع مؤسسة العرش، وهو ما كان الملك عبد الله الثاني بن الحسين تحدث عنه بصورة واضحة في شباط/ فبراير 2011.
بالعودة إلى الرسالة الملكية، فالواضح أيضاً أنها موجهة لمؤسسات الدولة الأردنية وللمواطنين بشكل عام، للدخول في معادلة جديدة من العلاقة مع الدائرة المؤثرة، ويبدو أن الاستعداد لدى المؤسسات ليس في المستوى المطلوب، خاصة مع مرحلة جمود تواصلت لسنوات كان المسؤولون خلالها يستثمرون في مناصبهم، التي لا يعرفون أسباباً واضحة لتواجدهم فيها، سوى خيارات رئيس مجلس الوزراء وأحياناً المخابرات، كما كانت الشائعات تسري في الأوساط الأردنية المختلفة، وبالتالي، أصبحوا عاملاً معيقاً أمام استقرار العمل المؤسسي، وربما يقف سبب تدخل المخابرات، أن كثيراً من المسؤولين الذين كانوا يترشحون لمناصب حيوية، لم يكونوا يمتلكون السيرة الذاتية المناسبة، أو التي تسوغ تواجدهم في مواقع من شأنها أن تحدد مسارات استراتيجية للدولة الأردنية. بعد أحداث الدوار الرابع كان رئيس الوزراء المكلف وقتها عمر الرزاز، يقف أمام جميع التوصيات التي وصلته من جهات عديدة، ومنها دائرة المخابرات العامة، وتأخرت عملية تشكيل الحكومة لفترة طويلة نسبياً، وفي النهاية أمضى الرزاز خياراته، وبعد فترة من الوقت، بدأت الأصوات تتعالى في حكومته حول عدم إمساكها بناصية الولاية العامة، وكالعادة كانت الحديث عن كواليس ومعلومات مرسلة وغامضة.
الأردن يعاني من أزمة شفافية مثل غيره من الدول العربية، وفي وسط أزمة إعلامية ممتدة ومستغلقة، من الطبيعي أن تستمع في أحد الصالونات السياسية، أو مجرد جلسة عادية شخصاً يسرد حواراً بين الملك ومدير المخابرات، أو رئيس الحكومة، ويؤكد الشخص أن الاجتماع كان سرياً وحساساً، والمشكلة أن أحداً لا يتوقف ليسأل المتحدث، أو يسأل نفسه، عن طبيعة العلاقة مع الملك، أو رئيس الحكومة التي جعلته يطلع على هذه التفاصيل، فالجميع يريد أن يملأ الفراغ ويتشوق لأي أمر منطقي، أو غير منطقي يغلق من خلاله التفاصيل المفتوحة، حتى لو كانت حديثاً عبثياً بالكامل. توقيت الرسالة يبدو مفهوماً إلى حد بعيد، على أعتاب مرحلة جديدة تتحرك أو سيتحرك فيها العديد من الملفات بصورة متسارعة وغير متوقعة، وفي ظل الحاجة إلى استثمار كبير من الخارج لتعويض التراجع الهائل في المساعدات المخصصة للأردن، والاستثمار الأجنبي لا يمكنه أن يقبل بالظروف القائمة في الأردن، بوصفها مسلمات، ولا أن يتعامل معها كتحديات طبيعية، لأن الخيارات مفتوحة أمامه في العالم كله، والاستثمار عادة ما يبحث عن دولة مؤسسات أو دولة «اللامؤسسات» والأردن ليس بإمكانه أن يتحول إلى دولة «لامؤسسات» لأسباب تتعلق بحساباته الاستراتيجية وموقعه من معادلة الصراع في المنطقة وعليها، وتركيبته التي نتجت عن ذلك كله، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.
كاتب أردني
اللهم احمي الاردن ملكا وامنا وشعبا
وامحق كل فاسد يا الله