المخرجة المصرية كاملة أبو ذكري: جماليات السرد السينمائي في الدراما التلفزيونية

مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

في أعمال المخرجة المصرية السينمائية كاملة أبو ذكري، تبدو شخصية المخرج الذي يتلاعب بمفردات اللغة السينمائية ويفرض عليها انزياحاته الدلالية كما يفعل الشاعر الحداثي بالكلمات ليمنحها إشراقة جديدة. ففي وسط ركام من النتاج السينمائي والتلفزيوني أقرب ما يكون إلى التسطيح والتنميط في صورته النهائية، وأبعد ما يكون عن الابتكار في الرؤى وأساليب التناول، فإن نظرة خاطفة لمسيرة هذه المخرجة ستضعنا أمام تجربة أشبه ما تكون، في جمالياتها بتراكيب شعرية تنهل من توقيعات الحداثة، بما تحمله من شحنات معبأة بعواطف وأفكار تستدعي من المتلقي تفاعلا وتأملا، وتترك في داخله انطباعات بغاية الشفافية.

من السهولة بمكان التوصل إلى نتيجة مفادها ان أبو ذكري في جميع أعمالها تفرض أسلوبها وإيقاعها، لأنها تملك مفاتيح اللعبة في المشروع الفني، بدءا من رؤيتها للنص، مرورا بقدرتها العالية على تطويع امكانات الممثلين بالشكل الذي يصبح فيه أداؤهم عنصرا أساسيا من طبيعة فهمها ورؤيتها الكلية للموضوع الذي تتصدى له، وهذا ما ينسحب أيضا على بقية العناصر الأخرى التي لا تخرج في توظيفها الدرامي عما تسعى إلى إيصاله في خطاب العمل، مثل الإضاءة، وإدارة التصوير، والأزياء والديكور.

بنية جمالية متخيلة

كاملة أبو ذكري تشير إلى نموذج من المخرجين، لا يقبلون أن يكونوا مجرد أدوات لتنفيذ أفكار المؤلف، أنما يضعون على عاتقهم مسؤولية إعادة كتابة النص عبر الصورة، ويحمِّلونَها مستويات متنوعة من التركيب السيميائي، بالتالي ستأخذ التجربة بكليتها إلى مديات من التأويل أبعد مما يحمله النص لوحده من أفكار، وذلك عبر ابتكار بنية جمالية معبأة بمعالجة صورية، وما تتضمنه من واقع افتراضي، تتشكل عناصره من شخصيات وأمكنة، فيها من الحياة الواقعية المتخيلة ما تلامس الواقع بصدق وواقعية أكثر من الواقع نفسه من حيث التأثير على المتلقي. كان ذلك واضحا ابتداء من فيلمها الثاني “ملك وكتابة” إنتاج 2006 تمثيل محمود حميدة وهند صبري، رغم أن فيلمها الأول “سنة أولى نَصب” إنتاج 2004 سيناريو سميرة محسن، كان ناجحا أيضا من الناحية الفنية والجماهيرية، إلا أنه من حيث الموضوع أقرب إلى الأفلام التي تخاطب جمهور السينما الباحث عن المتعة الخفيفة مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية موضوعة الفيلم التي تتحدث عن أزمة البطالة التي يعاني منها خريجو الجامعات، إلا أن قوة أسلوبها اتضحت في فيلمها “واحد صفر” إنتاج 2009 فنالت عنه عديد الجوائز الدولية وشاركت به في مهرجان فينسيا الدولي.

أولى خطواتها في عالم السينما كانت بعد تخرجها من المعهد العالي للسينما في مصر عام 1993 حيث عملت بصفة مساعد مخرج ثاني مع المخرج نادر جلال في فيلم “131 أشغال” وبعدها أقدمت عام 1999على إخراج فيلمها الروائي الأول القصير “قطار الساعة السادسة” وعملت في ما بعد مع مخرجين لهم أنماط إخراجية مختلفة، فتولت مسؤولية مُساعِدَة مخرج في عدد من الأفلام منها “هالو أمريكا” إخراج نادر جلال عام 2000 “إتفرج يا سلام” إخراج محمد كامل القليوبي وإنتاج 2001 “اللمبي” إخراج وائل إحسان وإنتاج 2002 “إزاي تخلي البنات تحبك” إخراج أحمد عاطف وإنتاج 2003.

مشاريع سينمائية

 

مع أي عمل فني يتصدى له المخرج صاحب المخيلة الجامحة والأسلوب المميز في قراءة الأفكار والواقع وما ينتج عن ذلك من عوالم افتراضية يؤسسها في تجربته، لن يقف عاجزا أمام الوسيلة التي يعرض من خلالها رؤيته الفنية، طالما يحمل في داخله شخصية فنان خلاق ومكتشف تتحرك مخيلته في مساحة حرة من الابتكار وتجاوز ما هو سائد ومتداول من أساليب وأنماط، ولهذا كان العمل في المسلسلات التلفزيونية من قبل أبو ذكري يصب في إطار مشروعها السينمائي الذي بدأت به منذ العام 2004.

من المعلوم ان الإنتاج السينمائي في العالم العربي يواجه صعوبات جمَّة، أولها ندرة مصادر التمويل والإنتاج، إضافة إلى عوامل أخرى، وما يعنينا هنا، أن أبو ذكري مثل غيرها من المخرجين الموهوبين، حاولت أن تتواصل في مهنتها، ولا تتوقف بسبب شحّة مصادر التمويل، ولم تسمح للظروف أن تقف عقبة أمام تطلعاتها الفنية، فما كان منها إلاّ أن تنتقل للعمل في المسلسلات التلفزيونية، باعتبار الإنتاج الدرامي التلفزيوني مجاور للفن السينمائي ومتداخل معه في كثير من عناصر التوصيل والتعبير والإيحاء، ومن الممكن أن يصبح مساحة جديدة لاستنبات أفكار ومخططات تضاف إلى ما يمتلكه الفن السينمائي من مديات فنية واسعة للتعبير عن. لم يكن عملها في الإنتاج الدرامي التلفزيوني يأتي من باب المغريات المادية التي تقدمها شركات الإعلان والإنتاج التلفزيوني، بقدر ما جاء مخاضا جديدا فرضته عليها ظروف تراجع الإنتاج السينمائي، لكنها دافعت عن منطقتها السينمائية التي تتحرك فيها ولم تتخل عنها، ولأجل ذلك عملت على تطويع الدراما التلفزيونية بكل ترهلها إلى رشاقةِ وشفافيةِ اللغة السينمائية. ومن يشاهد أعمالها التلفزيومية التي قدمتها سيكتشف أنها لم تبتعد عن دورها كمخرجة سينمائية، ويمكن القول إنها قدمت مسلسلات تلفزيونية برؤيةِ مُخرجةٍ سينمائية، أي أنها لم تخضع للأطر الجامدة التي كرَّسها الإنتاج الدرامي التلفزيوني العربي والتي يمكن تلخيصها في عدد من العناصر، منها مثلا: بساطة الموضوعات، تكرار تناول أفكار بعينها، الثرثرة الزائدة في بنية الحوار، غياب الطروحات التي تحفز وعي المتلقي على التفكير واستفزاز ثوابته الجامدة وذلك بخلخلة قناعاته اليقينية فكريا وجماليا، هذا إضافة إلى طول المَشَاهد وإيقاعها البطيء.

بصمة المخرجة

 

عندما دخلت أبو ذكري ميدان المسلسلات تجاهلت ركاما من المفاهيم الفنية المتأكسدة في قوالب الإنتاج، وتحركت في حيز من الحرية خلقته لنفسها لأجل أن تحقق سرديتها السينمائية عبر شاشة التلفزيون.

كانت البداية مع مسلسل “ذات” إنتاج 2013 عن رواية للكاتب صنع الله ابراهيم، ومثل الشخصيات الرئيسة نيللي كريم وباسم سمرة، وبدت قراءتها الإخراجية للنص بمثابة استعادة تفاصيل صغيرة حياتية في بنية العلاقات الإنسانية للطبقة الوسطى داخل مجتمع القاهرة، خلال مراحل زمنية مختلفة، تبدأ مع ثورة تموز/يوليو 1952 وتنتهي بثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 وفي هذا العمل تجلت شخصيتها كمخرجة سينمائية، خاصة وأنها تمكنت من الإمساك بروح الزمن ومتغيراته وانعكاساته على الشخصيات، وعلاقاتها مع بعضها ومع الأشياء، فكانت على درجة عالية من الذكاء والاحتراف في إمساكها بخيوط وتفاصيل إنسانية صغيرة عبر بنية سينمائية، رصدت بلقطاتها وزواياها وإيقاعها، العوالم الداخلية للذات الإنسانية وهي تواجه انكسارات وحروب وهزائم، يكرسها واقع تاريخي موضوعي يحيط بها، وأثبتت على أن المخرج إذا ما كان يحمل وعيا مميزا وفريدا سيبصم العمل باسمه، وسيكون الممثلون في مقدمة من سيظهر عليهم تأثيره، وسيتفاجئ بهم المتلقي على غير الصورة التي اعتاد ان يراهم فيها في مجمل أعمالهم السابقة.

سجن النساء

ثم جاء مسلسل “سجن النساء” إنتاج 2014 تأليف فتحية العسال، وحوار هالة الزغندي، فقدمت لنا أبو ذكري تحفة فنية تدور تفاصيلها عن نساء يعِشن شطرا من حياتهن وهن يتنقلن ما بين جدران السجن وخارجه، فبالإضافة إلى قوة النص، وعمق تناوله للشخصيات، جاء عمل المخرجة ليأخذ بمكوناته الأدبية بمستويات حواراته الثرية بالأفكار التي استبطنت عالم النساء، إلى ضفة سرد سينمائي كثيف في بنيته الدرامية والصورية، فكان سباقا محتدما خاضته المخرجة مع ما حفل به النص من مكونات إشارية إزاء واقع جدلي مُركَّب في طبقاته الاجتماعية، لأجل أن تقدم بنية جمالية موازية، تنتجها عناصر الصورة السينمائية، فكان العمل معبأً بشحنة أحاسيس ومشاعر تمكنت من تفجيرها لدى معظم الشخصيات النسائية، خاصة التي أدتها الممثلتان نيللي كريم ونسرين أمين.

ثم جاء مسلسل “واحة الغروب” إنتاج 2017 عن رواية للكاتب بهاء طاهر، سيناريو وحوار مريم نعوم وهالة الزغندي، تمثيل خالد نبوي، منَّة شلبي، سيد رجب، ونخبة ممتازة من الممثلين. جدير بالإشارة أن نيللي كريم (الممثلة المفضلة للمخرجة) كانت مرشحة أيضا لتمثيل الشخصية الرئيسية في هذا العمل، لكنها اعتذرت عن المشاركة، فحلت بدلا عنها منّة شلبي. وبدون مغالاة نستطيع القول إن هذا المسلسل استحق ان يوضع في صدارة الأعمال المصرية لارتفاع مستواه الفني، ومن خلاله استعرضت المخرجة ما تمتلكه من خيال في بناء الصورة تشكيليا، مستثمرة بيئة محلية شديدة الخصوصية في منطقة الواحات المصرية (واحة سيوه) وما تحفل به من آثار فرعونية وبيوت طينية بطرازها المعماري المتماهي مع البيئة الصحراوية، إضافة إلى الخصوصية المحلية للأزياء الرجالية والنسائية بتفاصيلها وألوانها، وتمكنت من أن تلتقط بحساسيتها الفنية وعينها السينمائية هذه المفردات، وشيدتها على الشاشة بتكوينات وقيم تشكيلية، وبلقطات وزوايا مدهشة، أعادت إلى الأذهان التحفة السينمائية الخالدة “المومياء” إنتاج 1969 للمخرج شادي عبد السلام.

في رمضان هذا العام وضعت كاملة أبو ذكري تجربتها أمام التحدي، عندما أقدمت على إخراج مسلسل “100 وش” قصة وسيناريو وحوار عمرو الدالي واحمد وائل، وهو عمل كوميدي خفيف من حيث الموضوع والفكرة، مقارنة بأعمالها السابقة التي أشرنا إليها، لكنها راهنت على تقديم وجبة درامية من حيث المستوى الفني خارج تصنيف الأعمال الكوميدية التي تعوّد المشاهد العربي عليها، عندما وظفت امكاناتها السينمائية في تقديم بنية سردية قائمة على المفارقة الواقعية بين شخصيات تنتمي إلى عالمين متناقضين ومتقاطعين طبقيا، ورغم حساسية الطرح لكون الشخصيات الرئيسية عبارة عن مجموعة مؤلفة من نساء ورجال يمارسون النصب والاحتيال للخروج من أوضاعهم الاقتصادية المتدنية، وعلى قدر عنايتها بطريقة سرد الحكاية بأسلوب أقرب إلى العفوية في تبادل الحوارات بين الشخصيات كما لو أنها تجري في حياتهم اليومية، بقدر ما كانت معنية في تقديمهم باعتبارهم كائنات إنسانية لها مشاعر وأحاسيس تشترك فيها مع بقية البشر، كما راهنت على كوميديا الموقف لخلق البسمة لدى المتلقين وليس اعتمادا على كلائش لفظية أو فسلجية في ملامح الشخصيات، ونجحت في تقديم واحد من أجمل الأعمال الكوميدية التي تألق فيها جميع الممثلين بدون استثناء.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية