المخرجة شيرين يزبك: الصوت هو الأقوى والأبقى ومسؤوليتنا إيصاله من غزّة إلى العالم

زهرة مرعي
حجم الخط
0

«هل تدين؟» فيلم قصير بطله أصوات أهل غزّة المستنجدين بالغارقين في الخرس والعمى

بيروت ـ «القدس العربي»: «هل تدين؟ غزّة تصرخ في العتمة» هو عنوان لفيلم. زمنه خمس دقائق ويتصف بالصوتي الوثائقي، ينقل للمشاهد دقائق مكثّفة من الحياة التي يعيشها الغزّاويون تحت الإبادة.

صانعة الفيلم بعيدة بالجغرافيا عن غزّة. سريعاً بعد السابع من أكتوبر راودتها ضرورة التعبير عن الإجرام المتمادي، والمذابح التي لا تستكين، والتي تصل ليل غزّة بنهارها. لفتها العمى الذي أصاب العالم وتجاهله للمجازر. إنها شيرين يزبك صانعة الأفلام اللبنانية التي ألحّ عليها التعبير، فبحثت عن فكرة تنقل عبرها صرخة أهل غزّة.
بنت شيرين يزبك في بيروت إحدى ليالي القطاع المعتمة بفعل العدوان. ليل حالك يتوسطه بناء شاهق، ليل نقل الواقع بأمانة، بما يتضمنه من أصوات بشر يتألمون، ويصرخون، ويستنجدون بعد استهدافهم بقنابل الطائرات. أصوات واضحة ومفهومة تصل من البعيد، صراخ نساء وأطفال وأبواق سيارات إسعاف، ورجل يستنجد بأعلى الصوت وسط اللهيب الذي نتخيله «يا أهل الإسلام نحن أهل غزّة نستنجد بكم».
تداعى البناء الضخم وأنطوى على نفسه، توشح المشهد كلياً بالأسود القاتم، وأصوات قصف تصمّ الآذان، وصوت رجل يهتف من أعماق قلبه «حماك الله يا غزّة. علّمت كل العالم البطولة. إحنا أبطال» علماً أنّ صوت المسيرة كان جلياً على مدار الدقائق الخمس.
في زمن قياسي بقصره قالت شيرين يزبك في تركيبتها السينمائية التي تسميها كبسولة الصوت، ما عجزت عن قوله الكثير من الكتابات الوصفية لحال غزّة ولصمود أهلها بوجه الإبادة. وكان سؤالها «هل تدين؟» ينغرز كشوكة في أخلاق وضمير العالم وناسه الذين برروا المجازر حيناً، وصنفوا الأطفال بالغين حيناً آخر، أو هم أشاحوا بعيونهم عن مذبحة يشارك فيها كل العالم المسمى متحضراً، وستبقى تلك المجازر عاراً على جبين البشرية جمعاء.
«هل تدين؟» فيلم يستحق الإحتفاء به، قال الواقع باللون والصوت، وكرر السؤال العنصري والوقح والفوقي الذي لازم كافة الإعلام الغربي بعد طوفان الأقصى «هل تدين؟».
مع شيرين يزبك هذا الحوار:

○ كيف ولماذا حاكت شيرين يزبك هذا السؤال الأخلاقي عن المجازر المرتكبة في غزّة؟
• بعد السابع من أكتوبر كان كل ضيف عربي وفلسطيني يظهر على محطات التلفزة العالمية مجبر بالرد على سؤال «هل تدين؟» ومجبر بإبداء الأسف لما قامت به حماس. كمرأة عربية تتابع الإعلام الغربي للوقوف على ما فيه كانت بدايات كل حوار تصيبني بحالة عصبية، لأني أعلم أنّ هذا الإعلام لن يستقبل يوماً مناهضاً لفلسطين ويسأله في البدء رأيه بالمجازر المتواصلة في غزّة. وبتنا نحن المسؤولين عن المجازر التي ترتكب بحق أهل غزّة. بات الإعلام الغربي إعلام دسائس، خاصة حين يستقبل شخصية من حركة فتح ويسألها إبداء الرأي بحركة حماس. استمع إلى قنوات التلفزة في العالم أجمع وأتوقف عند الأسئلة المطروحة. وقاحة أسئلة استمرت لأشهر طويلة، وبعدها راودهم الخجل من مجازر راح ضحيتها أكثر من 43 ألف مواطن غزّاوي.
○ أسود قاتم لون الفيلم لكنّ ختامه مبهر رغم القهر والموت. «حماك الله يا غزّة.. علّمت كل العالم البطولة..نحن أبطال» يصرخ رجل. ماذا تقصدين باختيار هذه النهاية؟
• هو صوت فتى مجروح وليس برجل. قد يبلغ عمره الـ16 سنة، استشهدت والدته. شاهدته بالفيديو بعد أن تم إنقاذه من تحت الركام، كان وجهه مُغطّى بالدماء وغبار القصف، جرى ذلك في 17 أكتوبر 2023. وفي صوته الذي يصعب التقاطه بالكامل يقول: «يا غزّة أنت صغيرة لكنك ستعلمين العرب الرجولة». هذا الصوت حولناه إلى «eco». ونحن حتى الآن لا نعرف وضع هذا الفتى ومدى إصابته. نعم اختياري لعبارة هذا الفتى كان بهدف منح الأمل للناس، ومع أمثال هذا اليافع غزّة لن تموت.
○ مخرجة بعيدة عن غزّة جغرافياً كيف رسمت هذا السيناريو الذي يجوز وصفه بالتجريدي والتراجيدي معاً بين صوت وصورة؟
• في الثامن من أكتوبر بدأت التفكير بكيفية إيصال صوت غزّة للعالم. وبدأت السؤال مع فريق العمل في غزّة عن الممكن. فريق العمل في غزّة لا يملك ترف التفكير بفيلم سينمائي. أوافقك الرأي بأنه فيلم تراجيدي من خلال الأصوات التي تضمّنها، ولأني أعيش في لبنان ويستحيل دخول غزّة، ألحّ عليَ إيصال صوت الغزّاويين. جرى تصوير الفيلم في بيروت بمشهد يجسد الواقع القائم في غزّة، أنها صورة ليلية من ست دقائق استعملت منها خمس، وكنت في وضعية إنسان لا يتيح له الوقت مرحلة المونتاج، تماماً كما كافة المصورين الذين يعيشون في غزّة.
○ ما هو تصنيف الفيلم؟
• يمكن وصفة بكبسولة الصوت، وبالفرنسية Capsule Sonore.
○ كم لهذا النوع من الأفلام كسر الخرس المخيم على البشرية؟
• الغالبية تشيح النظر عن ما يحدث في غزّة. فإذا كان الناس كذلك كان هدفي من فيلم «هل تدين؟» أن يسمعوا، وأن يتخيلوا ما يريدونه، عندها يمكنهم القول «ما شفنا» وليس بامكانهم القول «ما سمعنا».
○ هل لنا أن نسأل عن شكل التعاون مع آخرين في غزّة لولادة هذا الفيلم؟
• كوني صحافية تعمل في «بي بي سي» أستراليا، تمكنت من التواصل مع فريق في غزّة يساعدني في عملي الفني. بالعودة إلى بدايات الحرب حين أشاع الصهاينة أنهم سيقطعون الكهرباء كلياً عن غزّة، وأن شبكة الإنترنت ستتوقف، عندها من فكّر ملياً علم بأن اعتداءات عنيفة ومجرمة ستلحق بغزّة وناسها، حينها طلبت من الفريق المتعاون معي تسجيل الصوت. استغربوا وسألوا لماذا لا نصوّر؟ كنت غير مهتمة بالتصوير الذي يصعب أن يصل، بقدر اهتمامي بوصول الصوت. فكان صوت الدرون، ومن ثمّ الأصوات الأخرى بهدف نسج المغامرة بين غزّة وبيروت، نعم هي مغامرة استمرت لسنة.
○ كم من صراخ وألم واستغاثة سمعت وصولاً لاختيار ما وصلنا؟
• وصلتني من غزّة الكثير من التسجيلات. وكوني أم كان لصوت الأم التي تصرخ أهميته بالنسبة لي، إلى جانب صوت الإبنة التي تردد بحرقة ماما.. ماما. إنه الليل الذي يمنعنا من معرفة من يصرخ وما هو حال الناس بعد القصف، لهذا يتيح الصوت فرصة للتخيُّل. فبين صراخ الأم وصراخ إبنتها زمن قصير سمعنا خلاله صوت قصف قوي للغاية أدى لاستشهادها. لكل منا أن يتخيل ما يمكن لإبنة خسرت والدتها بعد القصف أن تفعل، إنه مصير مبهم للأم وللإبنة. للخيال أن يبني الصورة التي يراها.
○ متى اُنتج الفيلم؟ وأين عُرض؟ وماذا ينتظره من عروض مقبلة؟
• أخذت وقتاً بالتفكير في كيفية صياغة المادة التي وصلتني من غزّة. فهذا الفيلم يسبح بين الفن والسينما، أو هو بتعبير أكثر دقة تجريبي. إنه البحث في كيفية سرد قصة مادتها الوحيدة الملموسة الصوت. كانت تجارب لأشهر مع مهندس الصوت هيثم عتمة لتجسيد الصوت وحده كحدث. وصلتني الأصوات في نهايات اكتوبر 2023 وبدأنا العمل. العرض الأول للفيلم كان في مهرجان سينمائي في كورسيكا قبل أسبوعين، وهو مخصص للأفلام القصيرة. حصد تجاوباً مميزاً جداً. وقبل أيام عُرض في مهرجان الفيلم اللبناني في فرنسا ونال جائزة الصوت. وسيعُرض في مهرجان «تو كور» في أكس انبروفانس. الطريق ليس سهلاً أمام هذا الفيلم، فالجمهور الأكبر هو مع إسرائيل ولا يعترفون بكلمة مجزرة أو إبادة، تعبير الإبادة بحد ذاته من الكلمات المحرّمة في أوروبا. بينما مهم بالنسبة لنا الحديث الدائم حول الإبادة التي يتعرّض لها الغزيون، وإن لم نتكلّم كلبنانيين وبكل اللغات والفنون عن ما يحدث في غزة ولبنان فمن سيفعل.
○ ماذا عن تفاصيل النقاش مع الجمهور بعد العروض؟
• أكثر ما لفتني بعد العرض في مهرجان الفيلم اللبناني في باريس تعليق لشاب يافع قال «فيلمك يا مدام سيعرض فيما بعد في المتاحف». وهو يقصد أنه سيدخل التاريخ بحيث يصبح مادة تذكّر بالإبادة التي عاشتها وتعيشها غزّة على يد جيش الاحتلال. وفيما اللبنانيون يسلطون الضوء على المجازر في غزّة والآن في لبنان، نرى عرباً كثُر اختفوا من الوجود. اللبنانيون مجتهدون في إيصال الصوت في هذه الحرب المجنونة، وفيلم «هل تدين؟» فيلم صوتي أولاً.
○ وجدت في فيلمك «قصص انفجار مرفأ بيروت» شبهاً نسبياً مع فيلم «هل تدين؟» الذي تضمّن أصوات مواطنين كانوا يتحادثون هاتفياً لحظة التفجير؟
• صحيح، والفيلمان يلتقيان على اللون الأسود. كنت في منزلي في الأشرفية خلال انفجار المرفأ. نعم أهتم بالصوت، وهو الباقي مع الصورة بعد أن يختفي الأشخاص. لكني أجد الصوت والرائحة هما الأهم، وعندما يصعُب تجسيد الرائحة في فيلم سينمائي، سيبقى الصوت الذي يتمتع بحياة طويلة.
○ ماذا عن جديدك المقبل؟
• بصدد فيلم يروي علاقتنا كلبنانيين بالبحر الأبيض المتوسط عنوانه «بحرنا» كم نحبه؟ وكم ننتهك حرمته؟ وتأخذ الهجرة غير الشرعية مساحتها في الفيلم من خلال لقاءات مع البحّارة في منطقة العريضة شمال لبنان.
○ هل لنا ببطاقة تعريف لشيرين يزبك؟
• صحافية وصانعة أفلام وثائقية. لدي كتب حول المطبخ، ودليل سياحة عن لبنان. أتألم جداً لتدمير عدد من المناطق السياحية التي زرتها، وكذلك بودكاست.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية