يتميز البحث السوسيولوجي المغربي، بنوع من الالتباس، على الرغم من التراكم الكمي، خاصة على مستوى حجم الإصدارات التي صدرت إلى حدود الساعة باسم السوسيولوجيا؛ إذ تتأرجح، تواصلا وتفاصلا، بين الأبحاث السوسيولوجية الأكاديمية الصرفة، والكتابات الصحافية المهتمة ببعض القضايا الاجتماعية.
وفي سياق الأبحاث السوسيولوجية الأكاديمية الحصيفة، تندرج أعمال السوسيولوجي والأكاديمي المغربي نور الدين الزاهي، بما هي مشروع متراص البنيان، هدفه الرئيس تقديم تصور علمي يغذي الدرس الجامعي في هذا المجال، مثلما يهدف بالقدر نفسه إلى تعميق البحث في الظواهر الاجتماعية المغربية، نظريا وميدانيا.
في هذا الخضم إذن، يأتي كتاب «المدخل لعلم الاجتماع المغربي» الصادر ضمن منشورات دفاتر وجهة نظر 2011. وهو كتاب يحاول من خلاله نور الدين الزاهي رصد الوضع الطوبوغرافي للسوسيولوجيا المغربية باعتبارها مسارات متشعبة ومتعددة وليست مسارا أحاديا، بعلّة أن السوسيولوجيا المغربية جمع وكثرة بصيغة المفرد، وأن مساراتها متمايزة بتمايز مرجعياتها النظرية. نتحدث هنا عن المسار الكولونيالي الفرنسي، والأنكلوساكسوني، والمسار الوطني، علما أن المسار الواحد من هذه المسارات، تتنازعه هذه «الاختلافات المرجعية والمفاهيمية والغائية».
والحق أن من حسنات هذا الكتاب، أو البيبليوغرافيا النقدية، رغم أن صاحبها يتبرم من هذا التوصيف، بريب ماكر وبتواضع الكبار، كونه (الكتاب) وجبة سوسيولوجية دسمة للطلبة الباحثين والمتخصصين في هذا المجال من جهة، وكونه من جهة أخرى، كشفا لأهم الانقطاعات التي أحدثت شروخا وتمفصلات كبرى في تاريخ السوسيولوجيا المغربية؛ إذ دون معرفتها لا يمكن البتة للباحث استيعاب الدرس السوسيولوجي المغربي في إطاره العام: انقطاع مؤسساتي تمثل في إغلاق معهد السوسيولوجيا، وما خلّف من تأثير سلبي في البنية التحتية للسوسيولوجيا المغربية، أيضا وعطفا على ذلك انقطاع لساني تمثل في تعريب الدراسات الفلسفية والإنسانية في التعليم المغربي بجميع أسلاكه، ما أثر سلبا في البنية الفوقية التي انشطرت إلى لسانين/ ثقافتين/ مرجعيتين، وانقطاع ثالث تمثل في حظر مادة الفلسفة في الجامعة المغربية.
إن مهمة التعريف بهذه المسارات وتعميمها، فرضت على الزاهي حياكة مؤلفه هذا ضمن محورين أساسيين نتعرض لهما كما وردا في الكتاب:
أولا ـ مسارات السوسيولوجيا المغربية
في هذا الإطار يعود الزاهي إلى مرحلة التأسيس التي ارتبطت ببعثات الاستعمار الفرنسي، ما جعل البدايات الأولى للسوسيولوجيا المغربية كولونيالية بامتياز. ظاهرة التوسع الإمبريالي هذه، لم تكن وحدها سببا في تطور السوسيولوجيا في المغرب «لولا تلاقي أفكار ليوطي الكبرى وسياسة علمية سنها ألفريد توليي، ونظام جورج هاردي».
وفي غمار هذا المخاض الكولونيالي، سوف تبزغ شمس السوسيولوجيا الوطنية مع تأسيس معهد السوسيولوجيا بتاريخ 21 يوليو/تموز1959، وسيلعب المعهد دورا حاسما، خصوصا في مرحلة عبد الكبير الخطيبي، في خلق دينامية علمية، تُزاوج بين التكوين والبحث. لقد كانت مهمة المعهد، حسب الخطيبي وباسكون «متعددة لكنها متكاملة في منح المغرب فرصته التاريخية لتملك تاريخه وزمانه ومكانه ومعرفته الذاتية بمتغيراته وبنياته» فضلا عن أن المعهد، بإيعاز من الخطيبي، راهن بشكل كبير على تصفية السوسيولوجيا من نزعتها الكولونيالية ذات البعدين المعرفي (القيمة الوصفية) والأيديولوجي (الأحكام القدحية للدراسات الكولونيالية في حق المغرب والمغاربة).
وليس من شك في أن هذه الفرصة التاريخية، جعلت الباحثين في المعهد، يوجهون آليات البحث السوسيولوجي نحو البحث الميداني للعالم القروي، ما جعل الدولة المخزنية تتهيب من الخطر الذي أصبح يتهددها بسبب انتشار الوعي المضاد، الشيء الذي عجل بإغلاق المعهد سنة 1970.
هذا الأمر سيغير من مسار السوسيولوجيا في المغرب، وسيقوي طموح السوسيولوجيين المغاربة، من أجل تأسيس سوسيولوجيا وطنية مستقلة ونقدية، حتى إن كانت المؤشرات معيقة لنمو «البحث السوسيولوجي وتجذره في البنية العلمية والاجتماعية العامة».
ومع كل هذه المعيقات والمطبات، استطاع البحث السوسيولوجي المغربي، خصوصا في العقد الثمانيني من القرن المنصرم، فتح أوراش للنقاشات والصراعات الناجمة عن الاختلافات بين السوسيولوجيين المغاربة، بسبب تباين وتضارب المرجعيات المعرفية. لقد شكل هذا الصراع، نقطة قوة السوسيولوجيا خلال هذه الحقبة؛ فعلى الرغم «من الاختلافات الإيجابية بين السوسيولوجيين المغاربة آنذاك، فقد كانت حروبهم الداخلية لا تلهيهم عن التأطير الجدي لطلبتهم الباحثين وتوجيههم إلى البحث في المناطق الساخنة للمجتمع والفكر عموما» ولنا في السوسيولوجي محمد جسوس مثالا شافيا، إذ كان منشغلا بتوجيه طلبته لإنجاز المونوغرافيات، وكذا بتخليص هؤلاء الطلبة من دعاوى المد الإسلامي أو ما سمي آنئذ بأسلمة العلوم الاجتماعية، وذلك بتوجيههم نحو الفحص السوسيولوجي الأكاديمي.
ثانيا ـ أعلام وقضايا سوسيولوجية
في هذا المحور سيقف نور الدين الزاهي عند أهم أقطاب السوسيولوجيا الكولونيالية في المغرب، يتعلق الأمر بالأثنوغرافي الفرنسي إدمون دوتي الذي قام بمجموعة من الرحلات بين مدن وقرى المغرب، بهدف رصد معتقداتها ودراسة بنيات القبائل والزوايا (عيساوة مثلا)؛ كلّلت بإنجاز أطروحة حول «السحر والدين في افريقيا الشمالية». جورج دراغ لم يكن ليخرج عن هذا السياق الكولونيالي، وهو يقدم للسوسيولوجيا المغربية كتابا أكاديميا حول تاريخ المغرب الديني. هذا المسح الكرونولوجي للسوسيولوجيا المغربية الكولونيالية، سيمتد إلى روجي لوتورنو الذي تخصص في مدينة فاس وأهلها ونخبها، ثم شارل لوكور ومؤلفه «الطقس والأداة» وروبير مونتاني من خلال كتابه «ميلاد البروليتاريا المغربية» وبعده جاك بيرك الذي كشف طموحه السوسيولوجي «التداخل الكامل بين الاقتصادي والقداسي، وكيف تتحول رمزية القداسة إلى مصدر لتبرير وتوسيع حقل سيادة الشرف، ومعه حقل الملكية الخاصة». لينتهي هذا السفر الكولونيالي بواحد من أبرز أعمدة السوسيولوجيا المغربية ألا وهو بول باسكون، الذي لمع اسمه في السوسيولوجيا القروية «وشكلت إعادة قراءته للمجتمع المغربي أطروحته الأساسية، التي ما زالت تستهلك، علنا وخفية من طرف باحثين كثر»
بعد ذلك انتقل الزاهي إلى السوسيولوجيا الوطنية مع واحد من أهم روادها وهو المفكر والناقد عبد الكبير الخطيبي صاحب مشروع «النقد المزدوج». أما العروض التي كانت تقدم ضمن حلقات التكوين الذي دأب معهد السوسيولوجيا المغربي على تنظيمها فقد خصص لها المؤلِّف مبحثا خاصا. ولعل من أهم الباحثين الذين أسهموا في هذه الحلقات نلفي غريغوري لازاريف.
المباحث الموالية خصصها صاحبنا تباعا لسقراط السوسيولوجيين المغاربة محمد جسوس، وعبد الله حمودي «الأسس الثقافية للسلطة في المغرب» ومكي بنطاهر «سوسيولوجيا الشباب القروي» ومليكة البلغيثي «علاقات النساء ووضعية المرأة في الأسرة» وفاطمة المرنيسي «الحريم وسوسيولوجيته» وعبد الجليل حليم «سوسيولوجيا التبعية» وعبد الصمد الديالمي «الجنسانية المغربية» و»سوسيولوجيا التحولات الدينية» محمد شقرون و»سوسيولوجيا التعبيرات الدينية» إدريس بنسعيد، ومحمد طوزي وحسن رشيق ومصطفى محسن وعثمان أشقري وعبد السلام حيمر وسمية نعمان جسوس وحسن قرنفل وخديجة النعومي انتهاء بعبد الله العروي.
والحاصل أن نور الدين الزاهي، على الرغم من ادعائه الماكر في بداية هذا الكتاب، كما أسلفنا، بأنه لن يقدم لنا بيبليوغرافيا نقدية، إلا أنك كنت تجده بين الفينة والأخرى، وبشكل موارب، يسرب مواقفه السوسيولوجية بذكاء الأكاديمي المحايد. إن كتاب «المدخل لعلم الاجتماع المغربي» يعتبر بحق ذخيرة نفيسة تنضاف للخزانة السوسيولوجية المغربية، ودليلا للطلبة الباحثين المقبلين على الدرس السوسيولوجي المغربي بمساراته المتشعبة.
شاعر وكاتب مغربي