ما كان للحكيِ أن يُوجَد لولا الاجتماعُ. بدأت الحكاية عندما اجتمع آدميان، ربما هما آدم وحواء، (واحد منهما قال لصاحبه: تعالَ نَهْدُرْ، ويعني: تعالَ نَقُلْ كلامًا ما نتلافى به الوَحْشةَ). الحكيُ الفردي لا يكون إلا لإلهٍ أو لمجنونٍ أو لعاشقٍ هائم في البراري. ولذلك غَلُبَ على الظن أن فن الرواية، من حيث ما هو فن حكيٍ، إنما هو ابنُ اجتماع الناسِ، ومنتهى هذا الاجتماعِ على حد رأي الفلاسفةِ هو المدينةُ، وذلك بينٌ في قول ابن خلدون: «ويعبّر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسانُ مدني بالطبع، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم». وعليه، أزعم أن شعبًا لا يحتفي بـ«يُحكى أن» إنما هو شعبٌ متوحشٌ: شعبٌ خارجَ حكايةِ الحضارةِ. فليس للمرءِ إلا أن يحكي أو أن يتوحشَ.
إن في استقطاب المدينة لساكنَتِها استقطابًا للمتخيل أيضًا، إنها افتكت فعلَ التخييل، ولم تعد الأفكار تظهر كما يُروى في وادي عبقر، وإنما صارت تتخلق كما نعرف في الشقق والمقاهي والشوارع والساحات. ليست المدينة تشابكَ مبانٍ وتشابُكَ شوارعَ وحسبُ، وإنما هي أيضا تشابكُ متخيلات. فأن نسكُنَ المدينةَ يعني أن نسكنَ متخيلَها من جهة ما هو بروتوكولاتٍ، وعلاماتٍ، وقوانينَ، وهندسةٍ، ومواقيتَ، وانضغاطًا، وإكراهاتٍ. والمديني ليس كائنًا موفورَ الحرية كما يُشاع عنه بهتانًا، أبدًا، إنه مجبَرٌ فيها على العيش ضمن مربعٍ اجتماعي بعينه، ومجبَرٌ على احترامِ الأضواء، ومواقيتِ النقل، والوقوفِ بالطوابير، ودفعِ الضرائب، واشتراطاتِ التساكن: «لا خمرَ بعد الثامنة» يقول أولاد أحمد، وتقول البلديةُ: «لا حفلاتٍ بعد منتصف الليل».
ولعل في هذا الإكراه، وفي هذا الإحساس بالانضغاط، ما حفز سكانَ المدن على الخروج إلى ساحاتها والاعتصام بها، فسُميت تلك الساحاتُ ميادينَ الحرية، (ساحتا باردو والقصبة في تونس، ميدان الحرية في تعز ثم في المعادي، السترات الصفراء في ساحات باريس، ساحة رياض الصلح في بيروت…). والرواية من حيث ما هي فضاءٌ متخيَل ذو نبتٍ مديني، هي أيضا ساحةٌ من ساحات مدينة الناس، هي ميدانُ حريةٍ وميدانُ احتجاجٍ لإعادة تدبيرِ نظامِ المدينة.
واستنادا إلى ما سَبَق يجوز القول إن هناك علاقةَ تأثر بين المدينة والرواية، تتجلى صورتُها في أن كل تحولٍ تْشَهُده المدينة ينعكس بدوره على الرواية شكلاً ومُعجَمًا ومِزاجًا وحركةً. فمن حيث الشكلُ يمكن أن نستفيد من مقالة ميشال بيتور »المدينة نَصا «لنقول إن المدن التي كانت الحركةُ فيها من الهامش إلى المركز، قد ظهرت فيها روايةٌ ذاتُ سردٍ خطي تصب فيه حركةُ الشخصيات من أول سطرٍ فيها لصالحِ البطل، الذي هو مركز الحكاية، ولما ظهرت الأحياءُ الجديدة في أطراف المدن واستقلت عن المركز (في العاصمة التونسية ظهرت أحياء المنار، والنصر، والبحيرة…) هشمت الروايةُ السردَ الخطي ومالت إلى الارتجاع والاستباق، كما همشت مفهومَ البطل الوحيد، ووزعت البطولة على الشخصيات، وظهرت فيها كوكباتٌ حدثيةٌ، وبذلك أطاحت بالحواجز الفنية والاجتماعية والثقافية المكرسة. ومن حيث المعجَمُ نقول إنه النقد الروائي غربيا وعربيا لا يخلو من مصطلحات/عبارات ذاتِ مرجِعِية مِعْمارية على غرار بناءِ الشخصيات، والعتباتِ النصية، وأبوابِ الرواية، والتخطيطِ السردي، وغير هذا كثيرٌ. ومن حيث المِزاجُ فيبدو أن الاكتظاظَ بالمدينة الحديثة وجد صورةً له في الرواية الجديدة، من خلال كثرة تفاصيلها وتعقد شبكة العلائق بين شخصياتها، ناهيك من تنامي اضطرابِها، وفوضاها، وتوترها النفسي، وتِيهِها، وغرابةِ سلوكها، ومعارضتِها السلطةَ المركزية. ومن حيث الحركةُ، فإن البينَ بذاته هو أنه إذا كانت المدينة ثابتةً بأحجارها ومتحركةً بسكانها على رأي جورج بيريك، فإن الروايةَ هي أيضا ثابتةٌ بأحداثها ومتحركةٌ بدلالاتها.
المدينة في الرواية العربية نوعان: واحدةٌ واقعية تستدعيها الرواية من الواقع إلى اللغة، وأخرى متخيلة تصنعها الرواية باللغة وتُنزِلُها إلى الواقع.
أشير هنا إلى أن المدينة في الرواية العربية نوعان: واحدةٌ واقعية تستدعيها الرواية من الواقع إلى اللغة، وأخرى متخيلة تصنعها الرواية باللغة وتُنزِلُها إلى الواقع. فالمدينة العمومية هي التي «قَصَدَ أهلُها الاقتصارَ على الضروري مما به قَوَامُ الأبدان» (الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة)، فسِمتُها العامةُ هي التقشف الهندسي، والضيقُ، والتلاصقُ المُسبب لكل حالات التوتر والعنف الإنسانيين. وهي مدينة لا تنظر إلى الأعلى، ولا تحلم بحاراتها وشوارعها وناسها إلا أفقيا، بل إن أحلامَها تزدحم دومًا بالكوابيس، وتسكنها فئةٌ من الناس أخلاقيةٌ مُهمشةٌ وآتيةٌ من الدواخل، هم في الغالب عُمالُ الحضائر، والباعةُ الجائلون، والطلبةُ، والموظفون الصغارُ، ورجالُ التعليم، والمطلقاتُ، والمُتَدينون الجددُ، وأعوانُ الأمن الذين ليست لهم واسطة للعمل في الأحياء الراقية، «فيكون هؤلاء هم الذين يخدِمون ولا يُخْدَمون، ويكونون في أدنى المراتب، ويكونون هم الأسفلين» على حد وصف الفارابي لهم. ولا نكاد نعثر في الرواية العربية إلا على مدينة صارت حاضنة لتفريخ كل شروط القلق والضغينة والمكر والخديعة والإرهاب وإفراغ البشر من ذواتهم، ومَحْوِهم إلى الحد الذي صاروا فيه مفاعيلَ تتظاهر بأنها فاعلةٌ على حد عبارة جاك لاكان.
ويبدو أن قارئَ مُدونةِ الرواية العربية لا يجد فيها مدينتَه على غرار ما يجد القارئُ الفرنسي أمكنةً ومعالِمَ من باريسِه، في رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو، على سبيل المثال، حيث نهضت فيها مفرداتُ مدينة باريس العِمْرانية فاعلاً في الحدث السردي وموجهًا له، بينما ظلت المدينةُ العربيةُ حاضرةً في الروايات أسماء باهتةً لمحلات وشوارعَ وأحياءٍ ومعالِمَ، وليست حاضرةً باعتبارها كيانًا يؤاخي كينونات الناس أو يمْكُر بها في الحدث السردي نفسه: أعني كيانًا يصنع الحكايةَ بشغفِ فنانٍ. وقليلة هي رواياتنا العربية التي أنصتت لخطاب أمكنتها، ولا أعني بالإنصاتِ للمكان الاكتفاءَ بتوصيفِه ومَلْءِ كيانه بالأحداث وإجرائِها فيه بكثير من المفعولية، وإنما أعني به الوعيَ بفاعليته داخل الحكاية؛ وهي فاعليةٌ تُخول له توجيهَ حركة الشخصيات ومنحَها أمزجةً ودلالاتٍ جديدةً. ولن يتم له ذلك إلا متى هيأ له الروائي أسبابَ أن يكون ذا لسانٍ فصيح، وعاطفةٍ قويةٍ، وحواس متيقظةٍ، وجُرأةٍ على رفض ما لا يستسيغه من أحوال الأحياء والأشياء فيه، فكم روايةٌ تعطلت فيها حواس أمكنتِها، فظل حكيُها باردًا وهجينًا، وكم روايةٌ هاجت فيها أصواتُ المكان وأحلامُه فحركتْ مُهَجَ شخصياتِها وهيجَتْ معاني حكايتِها!
غير أن ما سبَقَ لا يمنع من القول إن هندسةَ المدينة في قليل من الروايات العربية من مثل روايات محفوظ، والبشير خريف، وجمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، وإلياس خوري، وإبراهيم الكوني، ووحيد الطويلة، وطالب الرفاعي، هي التي خلقت حكايتَها وتحكمت في مَجْراها، ذلك أن ملامحَ الأنهجِ والأسواقِ والأزقةِ وعنابرِ السجون ومَشْرفياتِ البيوت، وغيرِها من المفردات قد حددت في روايات هؤلاء طبيعةَ الأحداثِ التي تجري فيها وأمزجةَ شخصياتها. من ذلك أن القاهرة، ومنها حي الجمالية، تحضر في روايات نجيب محفوظ حضورا وارفَ المعنى، إذ تنهض الأزقةُ والقصورُ الفاطميةُ والمقاهي الشعبيةُ وعماراتُ السكن فواعلَ في نظم الحكاياتِ والتحكم في سيرورتها، ومن صُوَرِ ذلك أن انعدامَ إنارة سُلم البناية التي يسكنها عبد المنعم شوكت في رواية «السكرية» هو ما شجع جارتَه الشابة على التسللِ من بيتها وملاقاتِه فوق السطح بدون خوفٍ من عيون أهلِها، لا بل واستدراجِه إلى تقبيلها على كثرة ما عُرِفَ به من زُهدٍ في الدنيا وتقوى، وفي هذا الشأن نقرأ: «وعَبَرَ حَوْشَ البيت في ظلام دامس، ثم اتجه إلى السُلم، وفي تلك اللحظة فُتِحَ بابُ الدوْرِ الأول، وعلى الضوء المنبعث من داخل الشقة، رأى شبحًا يتسلل إلى الخارج ثم أغلق البابَ وراءه وسَبَقَه إلى السُلم. وخفق قلبُه، وجرى دمُه حارا كحَشَرة هيجَها القيظُ. رآها في الظلام تنتظر عند أول بَسْطةٍ وتتطلع نحوه، فتطلع نحوها».
احتاجت الروايةُ أيضًا إلى تصنيع مكانها عبر قناةِ التخييل، ومتى اكتملت فيها ملامحُه، تسربَ منها وخرج إلى الأرض، ونهض من جديد فاعلًا في أحداث واقعِ الناس.
وربما احتاجت الروايةُ أيضًا إلى تصنيع مكانها عبر قناةِ التخييل، ومتى اكتملت فيها ملامحُه، تسربَ منها وخرج إلى الأرض، ونهض من جديد فاعلًا في أحداث واقعِ الناس. وليس أدل على ذلك مما حدث مع رواية «باب الشمس» للكاتب إلياس خوري، ذلك أن هذه الروايةَ قد صنعت مكانَها سردًا، وأدارت فيه أحداثَها، ثم وهي تنفتح به على واقعها، منحته حياةً حقيقيةً، فإذا بـ«باب الشمس» يخرج من مُتًخيَل الرواية إلى واقع الناسِ، وإذا بشباب فلسطين يقيمون مخيما للعودة باسم «باب الشمس» ويخوضون صراعا مع قوات الاحتلال الصهيوني من أجل بقائه، وهو ما جعل الكاتب إلياس خوري يقول: «تابعت الحدثَ في باب الشمس بصفتي قارئا أولا، كنت أقرأ عمل هؤلاء النساء والرجال الذين هم أحفادُ بطلِ روايتي يُونُسَ وأبناءِ خليل، راوي الرواية»، ثم هو يوجه رسالة إلى هؤلاء الشباب قائلا لهم: «هذه هي فلسطين التي حَلُمَ بهــا يُونُسُ في رواية باب الشمس. كان ليُونُسَ حلمٌ من كلمات، فصارت الكلمات جروحا تَنْزِفُ بها الأرضُ، وصرتم أنتم يا أهالي بابِ الشمس كلماتٍ تكتب الحُلْمَ بالحرية، وتُعيد فلسطينَ إلى فلسطينَ. أنا معكم. أراكم وأرى كيف صار الحلم على أيديكم حقيقةً منغرسةً في الأرض. على هذه الأرض ما يستحق الحياة، كما كتب محمود درويش، لأنكم عندما بنيتم قريتَكم الرائعةَ أعدتُم المعنى إلى المعنى، وصرتم أبناءَ هذه الأرضِ وأسيادَها».
إن بنيةَ المجال العُمْراني في الرواية العربية لا تحْفِل بحُسن نوايا أصحابه من مُصَممين ومعماريين وبناياتٍ وشوارعَ وأفراد وعلاقاتٍ، وإن ما يظهر من حرية الشخص المديني إنما هي حريةٌ مغشوشةٌ صار فيها مستلَبًا وفارِغًا من كينونته، لا يفقه إلا استهلاكَ كل وقته في الحُلْمِ التظاهري، بل تحول إلى آلةٍ من آلات المدينة تُشغلها لتتحكمَ في طبائعها وتُوَجهَها الوُجْهاتِ التي تُقوي شوكةَ سلطانها على الناس. وإن تصفحَ نصوصِ حياة مدننا في الروايات العربية بكل مفرداتها البشرية والهندسية والعلائقية، يقف على حقيقة أنها أوغلت في الانزياح بثقافتها «التساكنية» – تلك التي تُلبي حاجاتِ جسدِ المجموعة وحاجاتِ عقلها وتحترم فيها حريةَ أفرادها وضميرَهم الجمعي- صوب ثقافة جديدة تقوم على فنون الخديعة والمكر وتبادل المَحْوِ العام. ينضاف إلى ذلك أن المدينةَ قد عجلت بمحوِ الـ«نحن» الاجتماعية وأحلت محلها فَرْدَانِياتٍ أنانيةً ومقيتةً.
٭ كاتب تونسي
تونس الجميلة