لو طلبنا من أي متابع للسينما، بل من أي عامل فيها أن يعدّد لنا أسماء بعض المخرجات في العالم العربي، هل يستطيع أن يذكر أكثر من ثلاث مخرجات في أحسن تقدير؟ هذا عن المخرجات اللواتي يأتين في المرتبة الثانية بعد الممثلات في الشهرة، وعادة ما تُذكر أسماؤهن مع الفيلم، فكيف يكون الوضع إن سألنا عن أسماء المنتجات والمصورات والمونتيرات وملحنات الموسيقى التصويرية، وغيرها من المهن التي تقوم عليها صناعة السينما، ولكنها تتوارى وراء الكاميرا؟ الجواب حتما سيكون صادما.
شغلتني هذه الأسئلة، وأنا أدير الأسبوع الماضي جلسة نقاشية حول حضور «المرأة في صناعة السينما» في مهرجان البحرين السينمائي، الذي اختار أن يحتفي بالمرأة في دورته الرابعة. ورغم ما يقال عن الحضور النسوي في هذه الصناعة والنظرة الوردية له، إلا أن الواقع بعيد جدا عن الطموح، فالمرأة كانت في البدء ديكورا يزيّن به المخرجون أفلامهم، وبعد نضال طويل في مسيرة إثبات جدارتها أصبحَتْ سَنِّيدَةً للبطلِ/الرّجل، ولكنّ إصرارها على الحضور في مجالٍ تصلح له ويصلح لها، أوصلها إلى لعب أدوار البطولة، فقاسمت النساءُ الرجال الأدوار الأُولى، بل في أحيان كثيرة تصدّرت النجمات سماء الأفيشاتِ، بغض النظر عن المعضلة الأبدية التي تعاني منها المرأة وهي عدم المساواة في الأجور.
ولكن أمام الكاميرا، ليس كما وراءها، فهي في التمثيل ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، لكن في الإخراج والإنتاج والعمل التقني يبقى حضورها باهتا، رغم أن اهتمامها بما خلف الكاميرا قد بدأ باكرا أي مع بدايات السينما نفسها، فقبل مئة وستين سنة، دعا الأخوان لوميير مخترعا السينما، صديقهما ليون غومو الصناعي الشاب لحضور أول عرض لاختراعهما، فذهب برفقة سكرتيرته الآنسة أليس غي، التي انبهرت بما رأته فاقترحت بشجاعة على صاحب عملها أن تصنع هي بدورها أفلاما، فوضع مديرها تحت تصرفها ما تحتاجه من معدات على سبيل التجربة، ومن إيمان الصناعي بحماس وموهبة سكرتيرته، ولدتْ أول مخرجة في التاريخ، وفي المقابل أصبح مشغّلها وداعمها أكبر منتج سينمائي في العالم، عبر شركته «غومو للإنتاج والتوزيع السينمائي». وبعدها توالت رائدات الإخراج السينمائي في بلدان متعددة مثل، المخرجة الفرنسية الطليعية جيرمين دولاك، وأول مخرجة هوليوودية لويز فيبر، التي صنعت أول فيلم لها سنة 1915.
ولم يكن الوضع في العالم العربي مختلفا من حيث البدايات الواعدة، ففي مصر التي عرفت السينما باكرا جدا، لم يمض وقت كبير حتى ظهرت عزيزة أمير أول مخرجة ومنتجة مصرية قالت عن نفسها «أنا لم أبحث عن أبناء من وراء الزواج، لأن السينما هي ابنتي الوحيدة التي أنجبتها». وقال عنها الاقتصادي المصري طلعت حرب «لقد حققتْ ما عجز عنه الرجال»، أنشأت أم السينما المصرية، كما كان يطلق عليها، سنة 1927 ستوديو هليوبوليس عام 1927، وفيه أنتجت فيلم «ليلي» الصامت وهو أول فيلم مصري روائي طويل، حضر حفل افتتاحه أمير الشعراء أحمد شوقي، ويحسب لها أنها أول من قدم فيلما عن القضية الفلسطينية، إنتاجا وكتابة سيناريو وتمثيلا بعنوان «فتاة من فلسطين» سنة 1948. وهناك أيضا بهيجة حافظ ابنة العائلة الأرستقراطية، التي استهوتها السينما، فكتبت السيناريو ومثلت وأسست شركة «الفنار» للإنتاج السينمائي، وكانت أول مؤلفة موسيقى تصويرية في مصر، ولا يكتمل الحديث عن حضور المرأة في الصناعة السينمائية، من دون ذكر أشهر منتجة آسيا داغر وشركتها «لوتس»، التي عمّرت طويلا منذ أفلام الأبيض والأسود إلى الأفلام الملونة التي كانت رائدتها، حيث أنتجت أول فيلم مصري بالألوان، وبقيت تعمل في مجال السينما ستين سنة كاملة، عرف المشاهدون من خلال شركتها مخرجين أصبحوا كبارا مثل، هنري بركات وحلمي رفلة وعز الدين ذو الفقار، وفنانات صرن نجمات مثل فاتن حمامة وصباح في جانبها التمثيلي. لكن مثلما حدث في السينما العالمية، لم يكن الأمر مختلفا في السينما العربية، فقد تقلص دور النساء رويدا رويدا في مجال صناعة السينما، ما عدا مجال التمثيل لصعوبة الاستغناء عنهن. حتى عدّت الصناعة السينمائية إنتاجا وإخراجا مجالا ذكوريا، ويكفي أن مصطلحا عالميا أصبح متداولا يصف هذه الظاهرة، فإذا كانت عبارة السقف الزجاجي تشير إلى «الحواجز غير المرئية التي تمنع النساء والأقليات من التقدم في مجالات مختلفة» فقد ظهر مصطلح «السقف السيليلوزي» نسبة إلى مادة السيليلوز التي تدخل في صناعة الأفلام، ويشير هذا المصطلح إلى «الحواجز والتحديات التي تواجهها صانعات الأفلام، خاصة النساء ذوات البشرة الملونة، في تحقيق فرص متساوية»، في هذا المجال الذي يكاد يكون حكرا على الرجال، وهناك تقرير سنوي بعنوان «دراسة السقف السيليلوز ترعاه جامعة سان دييغو، ويرصد الحضور النسوي في الصناعة السينمائية في هوليوود.
يكفي الاطلاع على آخر نسخة منه (2023) لتذهلنا الأرقام عن حجم غياب المرأة عن هذه الصناعة العملاقة، ففي أهم 250 فيلما في تلك السنة، لا نجد سوى 16% من المخرجات و26% من المنتجات، أما في الأمور التقنية فالأمر مقلق حيث لا نجد إلا أقل من 7% من المصورات، وعلى ذكر التصوير السينمائي لم يتداول الإعلام العالمي اسم مصورة سينمائية، إلا عندما حلت بها كارثة، وذلك حين قُتلت مديرة التصوير الشابة هالينا هتشينز، قبل ثلاث سنوات بطريق الخطأ عندما أطلق عليها الممثل أليك بالدوين الرصاص، فعُرفت المصورة ذات الـ32 فيلما لا بكفاءتها، بل بتهور ممثل مشهور. والتقارير الأمريكية والأوروبية الصادرة حديثا عن المرأة وصناعة السينما ليست مبشرة أبدا.
لدينا الآن مجموعة من المخرجات والمنتجات اللواتي تركن بصمتهن في السينما مثل التونسية كوثر بن هنية، التي وصل فيلمها «الرجل الذي باع ظهره» للتنافس على الأوسكار، ضمن فئة الأفلام بلغة أجنبية، وكذلك فيلمها الأخير «بنات ألفة»، الذي نافس على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، واختير ليكون ضمن القائمة الأولية لجائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية في جائزة الأوسكار. وكذلك هيفاء المنصور أول مخرجة سعودية يُرشّح لها فيلم إلى جائزة الأوسكار وينال فيلمها «وجدة» أكثر من عشرين جائزة سينمائية، ولا يمكن بأي حال تجاهل تجربة المخرجة المصرية إيناس الدغيدي التي إضافة إلى الإخراج أنتجتْ وألّفتْ ومثّلتْ، وأثار كثير من أفلامها جدلا تارة بدعوى الجرأة، وأخرى بسبب انتصاره للقضايا النسوية. وهناك أسماء أخرى مهمّة، ولكن هل تصنع سنونوة واحدة الربيع؟
وكي لا ندفن رأسنا في الرمل فإن لهذا الغياب أسبابه الاجتماعية والتاريخية وحتى الاقتصادية، لذلك نجد أمثلة كثيرة تستند فيها المرأة المنتجة إلى زوجها المخرج أو المخرجة على زوجها المنتج، وكأن هذه الشراكة تحميها وتضمن لها النجاح ما دامت تحت جناح أبوي ذكوري. وكذلك انتشرت بعض الظواهر مثل مهرجان المرأة السينمائي، أو جوائز الفيلم النسوي ممّا يذكرنا بالجوائز الأدبية الخاصة بالمرأة، وكأنها تنافس في مجال رياضي هي أضعف فيه من الرجل.
نحن بحاجة إلى لمسة أنثوية في الصناعة السينمائية، فقدرة المرأة على ملاحظة التفاصيل ومعرفتها بقضاياها من الأفضل أن تقدمها لنا هي، لا بعين رجل يتقمص شخصيتها. فمن المفارقات أن السينما المصرية التي حملت عبء النهوض بها أسماء نسوية كثيرة ذكرنا بعضها يتقلص فيها دور المرأة في القرن الواحد والعشرين إلى التمثيل فقط، خاصة أن الموانع السابقة من النظرة الدونية التي كان ينظر بها إلى العاملات في المجال السينمائي قد زالت، ولم يعد مستهجنا عمل المرأة في المجالات التقنية كالمونتاج أو التصوير. فهل نرى قريبا – وجميع الظروف مهيئة الآن لتغيير هذا الغياب أو التغييب الذي لا يقتصر على العرب فقط – أن تتمكن النساء في مجال صناعة السينما من اختراق السقف السيليولوزي الذي يقول: بأن مكان المرأة أمام الكاميرا وليس خلفها.
بروين حبيب
شاعرة وإعلامية من البحرين