المرأة بين الشعر والسرد

حينما يطرح سؤال مثل سؤال: هل المرأة شاعرة؟ فإن مثل هذا السؤال لا يقوض حضور المرأة في التاريخ، لأنه لم يكن لها حضور فكري وثقافي وفعل إبداعي، بل إنه سؤال يطرح إشكالية بداية كتابة المرأة للشعر، ويشير ضمنيا إلى قضية أن المرأة، التي أسهمت الثورات الحقوقية في ترسيخ حقوقها في المساواة في الفرص الوظيفية، والحقوق المادية والعلمية، لم تستطع إلى اليوم أن تظهر كشاعرة مبدعة لها حضورها المهم في حركة الشعر العربي الحديث. ويسأل كذلك عن إخفاق خطوات المرأة في الشعر، في حين أبدعت وتألقت في السرد. كما تتسع دائرة الأسئلة عن لغة المرأة وأسلوبها الكتابي، ولما أشهر الشاعرات العربيات يكتبن بلغة الرجل، ويقلدنَّ موضوعات الرجال؟
تناقش فرجينيا وولف في كتابها «غرفة تخص المرء وحده» عددا من القضايا المتعلقة بأسباب صمت المرأة التاريخي، إذ لم يشهد التاريخ الأدبي ظهورا لصوت المرأة، وهي بذلك تدين النساء والرجال على حد سواء، وتتساءل لما لم يكن ثمة دور تؤديه النساء، سوى التسوق ووضع المساحيق على أنوفهن، كما تنتقد المجتمع الذكوري بفلاسفته وأدبائه وشعرائه، الذين صاغوا خطابا إقصائيا تجاه المرأة، وضعها في خانة الإنسان من الدرجة الثانية، وتعيش وضعية دونية لا تستطيع معها أن تفكر كما يفكر الرجل.
يقال إن الشعر ذكوري، لأنه بشكل أدائي ممارساتي ارتبط بالرجل الكاتب، فحينما نقول بذكورية الشعر في الأزمنة السابقة، فنحن نعني توصيفا دقيقا لتاريخ الكتابة والتأليف في العالم كله، الذي ارتبط بالرجل. وهذا يحيل بالطبع إلى قضية لماذا جرى إبعاد النساء عن دائرة الكتابة والتأليف وقول الشعر، إلا باستثناءات قليلة لا نستطع تعميمها وعدها أثرا لحضور المرأة الشعري في التاريخ.
كانت المرأة موضوعا شعريا، شيئا جماليا يحرك الإبداعَ، لا أكثر من ذلك. تقول وولف: «إن النساء كن يُضئنَ كالمنارات في أعمال كل الشعراء منذ الأزل». (الغرفة) وتذهب وولف، هنا، إلى أبعد من ذلك، إذ تناقش صورة المرأة الجميلة في الشعر بخاصة، والأدب بعامة، وهي صورة تخالف صورة المرأة في الواقع، قائلة إنهن منارات في القصيدة، لكن من الممكن ألا تعدو صورتها في الواقع أن تكون ربة منزل. لم تكن هذه الصورة تشغل فرجينيا وولف وحدها، بل طورت هذا السؤال النقدي مي زيادة أيضا، متسائلة عن هذا التمثيل المغلوط للمرأة في الأدب. لقد كانت صورة المرأة في الأدب مشبعة بالخيال المشرق، لا تتطابق مع حقيقة النظرة إلى المرأة على أرض الواقع.
التفتت وولف في الأجزاء الأخيرة من كتابها «الغرفة» إلى الفرق بين الشعر والسرد، ورأت أن المرأة لم تكتب الرواية ولا الشعر، وحللت الأمر موضحة، أن طبيعة السرد تتماشى مع ظروف المرأة الكاتبة التي لا تملك غرفة خاصة بها، ووقتا خاصا بها، ومالا يساعدها في تدبر شؤون حياتها. الشعر حالة شعورية مكثفة لا تتطلب تقطعات، وهذا الأمر لم يكن متاحا للمرأة التي تكتب في غرفة المعيشة وفي المطبخ، وتكتب وهي تعمل في تطريز منسوجة ما، أو وهي تطبخ، كل هذه التوقفات، تؤهل المرأة لكتابة السرد، أما الشعر فهو يتطلب حالة أخرى.
إن مقارنة الشعر بالرجل، والسرد بالمرأة، موضوع متسع ومتشعب يحتاج إلى دراسة خاصة به، وقد أعطي في النقد الغربي حيزا مهما يحتاج إلى أن نطلعَ عليه ونتفهمه. تشير وولف إلى «أن الحرية الفكرية تعتمد على الأشياء المادية، والشعر يعتمد على الحرية الفكرية. لذا، تعتقد أن كتابة الرواية تتلاءم بسهولة أكبر مع البدايات والتوقفات المتكررة؛ لذلك تميل النساء، في الأرجح، إلى كتابة الروايات أكثر من الشعر». (سعاد العنزي، نساء في غرفة فرجينيا وولف).


لما هذا الغياب؟ سؤال مهم يجب الإجابة عنه من خلال وضعية المرأة التاريخية، من خلال العوامل الاقتصادية، ومن خلال تاريخ تبعية المرأة المملوكة لرجل ما، إما كحرة تابعة لذويها وإما كجارية تباع وتشرى. في ظل غياب التعليم النظامي في ذلك الزمن، لم تكن المرأة تستطيع تعليم ذاتها وتطوير نفسها بالقراءة، إلا ما ندر، بل حتى لو تمكنت من القراءة، فهل كانت الأعباء الملقاة على عاتقها من أعمال منزلية ستجعلها قادرة على الكتابة والتأليف؟ وهل كانت تملك أن تتخيل نفسها حرة طليقة تحلق في فضاءات إبداعية، استطاع أن يغامرَ الشاعر العربي القديم ويجربَ آفاقها؟ وهل تستطيع امرأة حرة عربية أن تتنقل بين دواوين الأمراء والخلفاء لإنشاد الشعر؟ إن الجواري استطعنَ ذلك لأن هذا دور اجتماعي وممارسة ثقافية وضعنَ فيه، حتى طبيعة الشعر وموضوعاته كانت تتناسب مع الفهم الاجتماعي لطبيعة علاقة المرأة بالرجل.

الثقافة العربية لا ترحب بالاختلاف والمغايرة، والشاعرة العربية تعي ذلك جيدا. لذلك، فالشاعرة العربية لا تريد أن تخالف الطريق الذي سار عليه آباؤها وإخوتها من الشعراء، لأنها تعي جيدا، مثلما يعي أيضا كثير من المثقفين، أن لعنة الاختلاف ستحيلها وتحيلهم إلى الهامش، هامش الثقافة العربية.

إن فرجينيا وولف، التي قالت ذات يوم إن عظمة شكسبير قد قهرتها، تتخيل أختا لشكسبير، كما يلي: «دعنا نفترض أن أخته، ذات الموهبة غير العادية، بقيت في البيت، وكانت محبة للمغامرة، وصاحبة خيال وتلهف إلى رؤية العالم بقدر ما كان أخوها. لكن أحدا لم يدعها تذهب إلى المدرسة، ولم تكن لديها الفرصة لتعلم النحو، ولا المنطق، ناهيك من قراءة هوريس وفيرجيل. كانت من وقت إلى آخر، تلتقط كتابا – أحد كتب أخيها ربما- وتقرأ بضعَ صفحاتٍ. لكن، عندئذٍ، يدخل أبواها ويأمرانها أن ترتقَ جوربا، أو أن تهتم بمرقة الطعام، وألا تنفقَ الوقتَ في الكتب والأوراق. ولربما تحدثا إليها بنبرةٍ حادة، لكن مع ذلك بطيبة، فهما كانا واقعيين، يدركان ظروفَ الحياة لدى المرأة، ويحبان ابنتهما، بل إنها في أغلب الظن قرة عين والدها. وربما كانت تخط بعض الصفحات وهي في العلية، وفي الخفاء، لكنها تحرص على إخفائها وإلقائها في النار… إلخ». (وولف)
إذن، خيال وولف الخصب سمح لها بأن تتخيل في «الغرفة» أن لشاعر عظيم مثل شكسبير أختا، وسمتها جوديث شكسبير، قائلة لو تخيلنا أن لهذا الشاعر أختا، ورغبت في أن تكتب الشعر، وفرت من كنف والديها بعد أن أرادا أن يزوجاها رجلا مهما، فإنها ستواجه الحياة من دون حماية، في عصر كان يعتمد على القوة الجسدية، ولم يتحول بعد إلى المدنية، وتتعرض فيه المرأة إلى هجمات قطاع الطرق. تتحول المرأة في ذلك الزمن من امرأة موهوبة إلى موضوع رغبة وملاحقات من الرجال لاغتصابها، وجنونها وموتها وحيدة في العراء. ألم تكن هذه القصة المتخيلة إجابة أكثر واقعية عن فشل المرأة في الخروج عن النظام الاجتماعي الذي يحميها؟ وعن ممارسة دور لم يرسم لها من قبل هذه المنظومة الاجتماعية التي يصنعها الرجال والنساء على حد سواء؟
لنترك الماضي بكل حمولات إرثه الثقيل، وننتقل إلى الحاضر، هذا العصر الزاخر بانتصارات المرأة على مستوى تأسيس الحقوق، ونبحث في سؤال غياب المرأة الشاعرة، ولماذا لم تستطع أن تكونَ شاعرة لها خطها الإبداعي الذي يتفرد ويتميز عن تجربة الرجل؟ أرى أن المرأة لم تعتدِ الكتابة، وأن أساليب الكتابة هي من صنع الرجل، والبلاغة العربية التقليدية كلها من صنع الرجل، وهذه البلاغة لم يستطع الشعراء بعد أن يفلتوا من هيمنتها على وعيهم ولاوعيهم الشعري، إنها مخزون اللاوعي الذي انطلق من خلاله رواد النهضة الشعرية والنثرية؛ أحمد شوقي والبارودي والعقاد والمازني، انطلقوا من هذا الإرث اللغوي والبلاغي، فكيف نستنكر على هذه المرأة التي دخلت حديثا في الخريطة الإبداعية أن تنطلق مما انطلق منه رموز الحداثة العربية؟ ألا يتطلب الأمر من المرأة ممارسة وجرأة على طرح الجديد؟ ولنتذكر أن خليل مطران، وهو شاعر قدير، لم يستطع أن يعلنَ عن آرائه التجديدية في الشعر بقوة خوفا من التيار المحافظ في الوطن العربي. إن تغيير روح الشعر العربي أتى من الغرب، من مدرسة المهجر الشمالي، ومن الثورة الجبرانية العظيمة، التي استطاعت أن تهز قوالبَ الشعر العربي الجامدة. فإذا كان الشعراء الرجال خاضعين للأشكال التقليدية الموروثة للقصيدة العربية، فكيف بالمرأة في ذلك الزمن؟ وهذا ما ناقشته مي زيادة في حديثها عن تجربة عائشة تيمور.
الأمر الآخر؛ إن الثقافة العربية لا ترحب بالاختلاف والمغايرة، والشاعرة العربية تعي ذلك جيدا. لذلك، فالشاعرة العربية لا تريد أن تخالف الطريق الذي سار عليه آباؤها وإخوتها من الشعراء، لأنها تعي جيدا، مثلما يعي أيضا كثير من المثقفين، أن لعنة الاختلاف ستحيلها وتحيلهم إلى الهامش، هامش الثقافة العربية. ليس كل الشاعرات، وكل الشعراء، ممن حظَوا بالرصانة الفكرية التي تجعلهم يعون أهمية الاختلاف والمغايرة والصوت المنفرد، فهم يسيرون على طريق سِيْرَ عليه من قبل، إنه أمر خاضع لما يسميه هارولد بلوم (قلق التأثر) هذا القلق الذي يحيل الأدباء إلى مجرد ظل لآبائهم من الشعراء والكتاب. ولن نغفل هنا الإشارة إلى تراجع دور الشعر في الوطن العربي بعد إخفاق الشعر القومي وانكسار أحلام الشاعر العربي بعد عدد من الهزائم السياسية، التي شظّت الخريطة السياسية، وشتتت العرب إلى فرق متخاصمة، وقد اختار الشاعر أن يتحول من الانشغال بالفضاء الخارجي إلى الارتداد إلى عالم الذات، وإنشاء بلاغة جديدة ولغة جديدة تختلف عن لغة الأسلاف، ما يعني تخلي الشاعر العربي عن بلاغة الأسلاف المتسمة بالذكورة والفحولة، وأن حركة الشعر العربي الحديث خالفت مسار الأسلاف، وخلقت فضاءها الخاص الذي لم يحظَ بعد بقبول جماعي، لكنه أثبت حضوره في الآونة الأخيرة.
الأمر الأهم هو ذاك المتعلق بالممارسة الثقافية الخاضعة لسطوة العادات والتقاليد والمراقبة الاجتماعية والمؤسساتية للأفراد، وهل تستطيع أي امرأةٍ تمتلك موهبة شعرية فذة أن تقرأ أو تنشرَ قصيدة حب؟ أو تنتقدَ الأنظمة البطريركية؟ إن إنكار هوياتهن يجري في دمائهن، كما تعلن وولف. كم من الشاعرات الحقيقيات المختبئات خلف الأسماء المستعارة، والأقنعة المزيفة، بسبب العادات والتقاليد! هل كل الأسر داعمة لصوت المرأة وحضورها الإبداعي؟ إن ظهور امرأة في ملتقى ثقافي أو أمسية شعرية تقع خلفه سلسلة قهر طويلة، وتنازلات كثيرة من المرأة. وهذا ما جعل الشاعرة سعاد الصباح تتساءل بغضب:
هل تستطيع امرأة
أن تضرمَ النيرانَ في ثياب المتلون الدجال؟
وتكتب التاريخَ
فالتاريخ عادة يكتبه الرجال.

هل تستطيع امرأة مقيمة في مدن الغبار
أن تتحدى مرة واحدة سلطةَ شهريار
وتكتبَ الشعرَ على دفاتر من نار؟

ناقدة كويتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الباشا:

    أستاذة سعاد : لديَّ قناعة بأن أكثر النساء في هذا العصر لم يستطعن أن ينفين عن أنفسهن التهم والأوصاف السلبية التي تفنن الرجل في إلصاقها بهن عبر التاريخ ، وأن يثبتن أنهن لسن كنساء الأمس الغابر حين كن يُبعن ويُرتَهنَّ للغناء والخدمة والمتعة والإثارة.
    أستطيع أن أستدعي من ذاكرتي عددا من الأحكام والانطباعات السلبية التي راجت حول المرأة عبر عصور مختلفة ، فهناك صورة نمطية للمرأة قد تكونت أجزاؤها في ذهن الرجل منذ أن خلُقا ، أي منذ حكاية إغواء حواء لآدم ، ثم توالت الأجزاء المكملة للصورة عبر الزمن

إشترك في قائمتنا البريدية