في مقالة مقبلة سوف تتوقف هذه السطور عند شخصية كامالا هاريس، التي فازت مؤخراً ببطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي كنائبة رئيس للمرشح الرئاسي جو بايدن، وستُرصد إشكاليات هذا الخيار (إذْ، على نقيض ما يبدو للوهلة الأولى، ثمة مساوئ تتقاطع مع المحاسن)؛ على خلفيات يصحّ أن تذهب أبعد من تحديات هزيمة الفريق الرئاسي الحالي دونالد ترامب/ مايك بنس. ثمة إشكالية الهوية، الأفرو ـ أمريكية والآسيو ـ أمريكية في آن معاً، بالنظر إلى أصول هاريس الجامايكية/ الهندية؛ وثمة ارتطام التمثيلات والتنميطات المسبقة، بين هاريس «التقدمية» وهاريس القاضية ذات القبضة الأمنية المتشددة؛ إلى جانب اعتبارات أخرى تخصّ المواقف السياسية والقانونية والإيديولوجية.
هذه السطور تتوقف، في المقابل، عند وقائع سابقة اكتنفت حضور المرأة في الترشيح لمنصب الرئيس أو نائب الرئيس، وهل يصح الافتراض بأن النظام الانتخابي الأمريكي ينطوي، ذاتياً وليس طبقاً للقانون، على عراقيل مرئية أو خافية تعيق صعود امرأة إلى أعلى موقعَيْن في هرم السلطة التنفيذية الأمريكية.
هذا مع إشارات أولى ضرورية حول طبائع الانتخابات الرئاسية، مثل التناقض الفادح أحياناً بين الاقتراع الشعبي الفعلي والنتائح النهائية كما يصنعها المجمع الانتخابي (وهذا الإجراء هو الوحيد من نوعه على نطاق العالم)، ومعدّلات الإقبال الضئيلة نسبياً بالمقارنة مع أنظمة ديمقراطية غربية أخرى، وتعقيدات التسجيل لحيازة الحق في الانتخاب، وإجراء الانتخابات في يوم عمل وليس يوم عطلة، وما إلى ذلك.
الواقعة الأولى الجديرة بالاقتباس هنا تخصّ فكتوريا كلافلن وودهل (1838 – 1927)، أوّل امرأة أمريكية تطمح إلى بلوغ البيت الأبيض، والتي خاضت الانتخابات الرئاسية لعام 1872 وانتهت حملتها إلى فشل ذريع، لثلاثة أسباب أساسية: 1) أنّ النساء في أمريكا لم يحصلن على حقّ التصويت القانوني التامّ إلا في سنة 1920، بالمقارنة مع ديمقراطيات غربية أخرى: الدانمرك سنة 1913، ألمانيا 1918، هولندا 1919، بريطانيا 1928، فرنسا 1944…)؛ و2) أنّ السلطات الحكومية المسؤولة عن تسيير الأمور الإدارية للانتخابات، رفضت إدراج اسم وودهل على لوائح المرشحين، وبالتالي لم يكن ممكناً أصلاً التصويت لها ببطاقات اقتراع نظامية؛ و3)، وهذا سبب طريف، أنّ المرشحة لم تكن، نهار الانتخابات تحديداً، في بيتها أو في مقرّها أو في أيّ من مراكز الاقتراع، بل كانت… تقبع في السجن، بتهمة توزيع منشورات إباحية في صناديق البريد!
لكنّ حكاية وودهل لم تقتصر على هذه المغامرة، بل إنّ أحداث حياتها الصاخبة تُعدّ سيرة لواحد من أبكر فصول نضالات المرأة الأمريكية لنيل حقوقها، الدستورية والمدنية والإنسانية؛ سواء في الترشيح والتصويت، أو ارتياد أسواق البورصة (كانت وودهل أوّل امرأة مضاربة في التاريخ الأمريكي)، أو تأسيس صحيفة. ففي عام 1870 أطلقت وودهل جريدة أسبوعية، سرعان ما احتلّت موقعاً سجالياً وإشكالياً بارزاً بسبب نشرها مواضيع محرّمة ومسكوتاً عنها، في شؤون التربية الجنسية وحرّية العلاقات وتحديد النسل، فضلاً عن نشر الترجمة الإنكليزية لـ«البيان الشيوعي» أواخر العام 1871. بيد أنّ معركتها القضائية مع القسّ هنري وارد بيشر تظلّ الأشهر في هذا الصدد، إذْ كان الأخير أحد أبرز رجال الدين في زمانه (تمثاله ينتصب اليوم في حديقة كولومبوس، نيويورك)، وقد جعل من فلسفة وودهل التحررية موضوعاً دائماً لمواعظه النارية؛ فاعتبرها خطيئة ورجساً، وحرّض عليها بعض الصحف الدينية التي بلغت حدّ إظهارها في صورة امرأة/ شيطان. وحين افتُضحت علاقة القس غير الشرعية بامرأة متزوجة، أصرّت وودهل على نشر الحكاية في جريدتها، فانتقلت الوقائع إلى القضاء والرأي العام، مراراً وعبر قضاة ولجان تحقيق خاصة، أسفرت عن تبرئة القسّ وسجن وودهل!
هل يصح الافتراض بأن النظام الانتخابي الأمريكي ينطوي، ذاتياً وليس طبقاً للقانون، على عراقيل مرئية أو خافية تعيق صعود امرأة إلى أعلى موقعَيْن في هرم السلطة التنفيذية الأمريكية
الواقعة الثانية تعود إلى سارة بيلين، مرشحة الحزب الجمهوري لمنصب نائب الرئيس، صحبة المرشح الرئاسي جون ماكين، في انتخابات 2008. وعلى هدي الغزل الدائم بين الحزب الجمهوري والتيارات الشعبوية، وقع اختيار ماكين على بايلن لأنها قادرة على دغدغة المطامح والقناعات والأحلام والهواجس والمخاوف التي تتحكم بحشود الجمهوريين، وليس لأنها تعرف (وكانت في الواقع تجهل) الفارق بين القارّة والدولة في مسمّى أفريقيا؛ أو لأنها لم تكن على علم بعقيدة الرئيس الجمهوري آنذاك، جورج بوش الابن، حول التدخل الخارجي في أعقاب هجمات أيلول (سبتمير) 2011؛ أو حقيقة أنها، كما تتفاخر، لم تزر في حياتها سوى ثلاثة بلدان خارج أمريكا: المكسيك وكندا والكويت…
وحين عادت إلى الأضواء، بعد مغامرتها الانتخابية الخائبة واستقالتها كحاكم لولاية ألاسكا، وطموحها إلى مغامرة جديدة ولكنها رئاسية هذه المرّة بالنظر إلى افتقار الحزب الجمهوري إلى مرشّح أقوى منها لدحر باراك أوباما في انتخابات 2012؛ أتت بيلين بالعجائب، في ميدان السياسة الخارجية على وجه التحديد. فقد انضمت، سريعاً، إلى الجوقة المطالبة بقصف إيران، ليس باستخدام القاذفات الإسرائيلية كما ظنّ البعض، بل عن طريق قيام الولايات المتحدة ذاتها بشنّ حرب رادعة لا تتكفل بتدمير البرنامج النووي الإيراني فحسب؛ بل تكون كفيلة بردع كامل النفوذ الإيراني في المنطقة، وليس في العراق وحده! وضمن السياق ذاته، اعتبرت الحرب ضدّ إيران بمثابة الورقة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ رئاسة أوباما، بل لعلها تضمن له الفوز بدورة رئاسية ثانية: «لو فعل هذا، فإنّ الأمور سوف تتبدّل على نحو دراماتيكي. إذا قرّر أن يتصلّب أكثر ويفعل كلّ ما يستطيع لضمان أمن أمّتنا وحلفائنا، أعتقد أنّ الناس قد يغيّرون تفكيرهم قليلاً، ويقرّرون أنه ربما كان أكثر خشونة مما نراه اليوم».
الواقعة الثالثة آلت إلى هيلاري كلنتون، بالطبع، ولعلّ المدخل الأفضل إلى تشخيص نموذجها هو العودة إلى كتابها «خيارات صعبة» 2014؛ خاصة وأنه يغطي أيضاً ثلاث سنوات من ابتداء «الربيع العربي» حين كانت وزيرة الخارجية، ويسرّب خفايا عن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الانتفاضات العربية. ولم يكن خافياً أنّ أولى أغراض الكتاب كان الهندسة المسبقة للحملات التي سوف تنغمس كلنتون فيها، ضمن سياق المعركة الانتخابية الرئاسية لسنة 2016. الشطر الثاني من التكتيك انطوى على إكثار كلنتون من اللقاءات والمقابلات والتصريحات، بذريعة الترويج للكتاب، وكان الهدف الأبعد هو النأي بالنفس عن سياسات أوباما الخارجية، والغمز من خياراته في الملفّ السوري تحديداً، خاصة رفضه تسليح الفصائل المسلحة داخل صفوف المعارضة السورية «المعتدلة» الأمر الذي ترك الساحة مفتوحة أمام صعود «داعش» والجهاديين.
ذلك الانفكاك المعلن عن خطّ البيت الأبيض أكسب كلنتون جولة معنوية، وإعلامية بالطبع، حين تعاظمت قوّة «داعش» في العراق بعد سوريا؛ وصار لزاماً أن يعدّل أوباما خياراته، بحيث بدا أنها تقترب من أطروحات كلنتون، وتمنحها فضيلة الحكمة والتبصر. وللمرء أن يفترض، بذلك، أنّ المرشحة الرئاسية الديمقراطية في وجه ترامب خلّفت وراءها ذلك الفاصل العاطفي الحزين، سنة 2008، حين ترقرقت الدموع في مقلتيها بعد فشل سعيها إلى بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي، ضدّ بلدوزر كاسح يومذاك، كان يُدعى أوباما. غير أنّ فشلها أمام الأخير لم يتحوّل إلى هزيمة قاطعة، بدليل أنها اشتغلت منهجياً، ببطء وتؤدة وصبر وذكاء، لكي يصبح ذلك الفشل نسياً منسياً؛ حتى شاء المجمع الانتخابي الأمريكي، وليس الاقتراع الشعبي الفعلي في الواقع، أنّ أمريكا ما بعد أوباما هي أمريكا ترامب، وهيهات أن تتقبّل كلنتون في سدّة البيت الأبيض.
أو… أية امرأة أمريكية أخرى، أكانت تُدعى فكتوريا أم سارة أم هيلاري!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
في تصريح حديث العهد لها، تقول هيلاري كلينتون باحتمال خسارة الديمقراطيين أمام دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقررة في شهر تشرين ثاني المقبل حتى مع وجود الكثير من الأصوات.. وهناك احتمال آخر بصعود “نجم” المعادية للعرب والمسلمين لورا لومير التي فازت في انتخابات الجمهوريين عن ولاية فلوريدا مؤخرا، مما يدل على اشتداد عود اليمين العنصري والشعبوي أكثر فأكثر في أمريكا، وربنا يستر من القادم.. !!