تشهد السنغال منذ بداية هذا الشهر، موجة تظاهرات كبيرة بعد توجيه تهمة «إفساد الشباب» لزعيم المعارضة عثمان سونكو، الذي كان قد اتهم في البداية بالاغتصاب، قبل أن يقتصر الأمر على جريمة «الإفساد»، التي تشمل التحرش والتحريض على الرذيلة. يفترض أن يقضي سونكو فترة عقوبة مدتها عامان، إذا لم يحصل استئناف جديد، أما بالنسبة للمتظاهرين، فالمحكمة مسيسة والغرض منها هو منع سونكو من الترشح لانتخابات العام المقبل. للقضية أبعاد كثيرة ولا شك، حيث تشير الصور المنقولة من العاصمة داكار إلى تخريب كبير، ما يؤكد أن هناك احتقاناً مسبقاً لم يكن ينتظر سوى الفرصة المناسبة، وأوضحت الأحداث أيضاً أن النموذج الديمقراطي السنغالي لم يستطع أن يغير قناعة كثيرين بوجود ظلم اجتماعي.
في السياق ذاته كان ما أشيع عن عزم الرئيس الحالي ماكي سال الترشح لدورة ثالثة محفزا لغبن الجماهير، فطالما كانت الفترة الثالثة مرفوضة شعبياً في السنغال، واليوم يذكّر المحتجون بأن سال نفسه كان من المناضلين لأجل أن تقتصر حقبة الرئيس السابق عبد الله واد على فترتين. بالنسبة للشباب مثّل سونكو أملاً أخيراً في التغيير، وبينما خرج حكم المحكمة للعلن كان أنصاره يحرضون الناس على التظاهر، رفضاً لما اعتبروه ظلماً وتصفية للحسابات السياسية بواسطة القضاء وباستغلال سلطات الدولة. على صعيد آخر يجب التذكير بأن السنغال، المستعمرة الفرنسية العريقة، ليست بعيدة عن الاستقطاب الإقليمي حول مستقبل العلاقة مع فرنسا، حيث تشهد منطقة الغرب الافريقي تشكل معسكر جديد يلقي اللوم في قضايا الفساد والتنمية غير المتوازنة على باريس، التي فرضت نفسها، منذ الاستقلال كنافذة شبه احتكارية للاقتصادات الوطنية.
تشهد منطقة الغرب الافريقي تشكل معسكر جديد يلقي اللوم في قضايا الفساد والتنمية غير المتوازنة على باريس، التي فرضت نفسها، منذ الاستقلال كنافذة شبه احتكارية للاقتصادات الوطنية
سونكو، الذي لا يضيع فرصة، من دون أن ينتقد التدخلات الفرنسية، يعد من دعاة الانعتاق من أسر فرنسا وتدخلاتها، وبالعودة إلى لب القضية المتعلق بالاتهام بالاستغلال الجنسي، الذي تأسس على ادعاء إحدى عاملات التدليك بأنها تعرضت للاغتصاب والتهديد بالقتل من قبل سونكو، نلاحظ أن التهم، على خطورتها، كانت صعبة الإثبات، خاصة أن التردد على صالون تدليك، وإن تم إثباته، ليس جرماً، وبالنظر إلى أن الحادثة المقصودة تعود لأكثر من عامين، فإن التحقق من التفاصيل كان مسألة معقدة. في الأخير استبعدت المحكمة تهمتي الاغتصاب والتهديد بالقتل واكتفت بتهمة «الإفساد»، التي أنكرها سونكو أيضاً. على مستوى الرأي العام انقسم الناس لفريقين، فبينما كانت الجمعيات النسوية والحقوقية، تعتبر أن من المهم أن يتم التضامن مع «المجني عليها» وتصديق روايتها، لما سيقدمه ذلك من دعم للقصص المشابهة، وتأكيد على حفظ كرامة المرأة في البلاد، كان أنصار سونكو في المقابل يرفضون مناقشة هذه القضية، التي يعتبرون أنها محض تلفيق، بل يرفضون حتى الاستماع لأية حيثيات، حيث يعتبرون أنه حين تكون في صراع مع الدولة فإن بإمكان الأخيرة تزوير كل الأدلة، بما يشمل الفحوصات الطبية. الأكيد هو أن القضية كانت ستنحو منحى مختلفاً لو كان المتهم رجلاً عادياً، وليس شخصية رمزية أو عامة. هكذا، وبينما يتصاعد التوتر وتختلط الأوراق، يصبح فصل السياسي عن القانوني صعباً، ويبقى التساؤل حول ما إذا كان هناك استغلال جنسي بالفعل من طرف سونكو، أو ما إذا كان الأمر على العكس من ذلك وكان الأخير هو مجرد ضحية للاستغلال والابتزاز لإزاحته عن الساحة، صعب الإجابة. قريب من هذه القصة قضية الأكاديمي السويسري طارق رمضان، التي ظلت تشغل الرأي العام لقرابة الست سنوات، فبعد الكثير من الجدل القانوني، أعلنت محكمة سويسرية قبل أيام تبرئته من تهمة الاغتصاب، التي اتهم بها من قبل سيدة سويسرية، ادعت أن ذلك حدث في غرفة في فندق في جنيف في عام 2008. وجه الشبه مع قضية سونكو هو أن القصة أخذت اهتماماً كبيراً بسبب أن صاحبها كان شخصية عامة. رمضان كان اسمه معروفاً كخطيب ومتحدث مدافع عن الإسلام وعن الجالية الإسلامية في أوروبا، كما كان يعتبر من الدعاة، الذين تأثر بهم عدد كبير من الشباب. كان مناصرو رمضان يعتبرون أن الغرض الأساسي من تناول هذه القضية هو اغتيال الشخصية، وأن من عجزوا عن منازلته فكرياً من خلال النقاش الأكاديمي والمناظرات الجامعية والإعلامية لجأوا لهذه الطريقة للتخلص من إزعاجه. بعد إنكار وجود علاقة مع السيدة الشاكية في البداية، انتقل رمضان للاعتراف بذلك مع إنكار تهمة الاغتصاب، ما قوّى موقفه القانوني المستند إلى المنطق الغربي، الذي لا يرى غضاضة في أية علاقة رضائية بين بالغين. في كل مرة كانت تطرح هذه القضية في الإعلام الغربي، كان يتم الربط بين رمضان والإسلام والتأكيد على أنه ممثل للدعوة الإسلامية، وهو ما كان يرفضه قائلاً، إنه ليس سوى مجتهد لا يمثل إلا نفسه، وأن لا أحد من المسلمين يمثل الإسلام، فإذا أخطأ شخص، يجب نسبة الخطأ إليه لا إلى دينه. تابع رمضان بعد صدور حكم التبرئة الأخير شرح موقفه قائلاً، إنه كان يرجو منذ البداية أن ينسى القضاة والمتعاملون مع قضيته خلفيته وصورته الإعلامية وأن يتعاملوا مع الوقائع الواضحة في شكلها المجرد. رمضان ظل يخشى من حدوث تأثير على القضاء من جهة الأوساط، التي كانت تعاديه بشكل شخصي، أو تلك المعادية للإسلام، والتي تناولت القضية بشكل دعائي لا يخلو من التشفي وكأن غرضهم كان مجرد التشويه أو التدليل بخبث على نفاق المسلمين. ربما لا يكون مثيرو القضية نجحوا في تجريم رمضان وإدانته، إلا على مستوى الإدانة الأخلاقية أو الإدانة بسبب الكذب، لكن الحقيقة هي أنهم نجحوا في شغل الرجل عن مبارزاته الفكرية، وعن مشروعه الفلسفي بالدفاع عن نفسه، لينتقل مستوى اللقاءات الإعلامية من الحديث عن الثقافة الإسلامية والتعايش والاندماج إلى تكرار الحديث عن تفاصيل شخصية.
قريب من هذا سلسلة القضايا، التي ظلت تلاحق الرئيس السابق دونالد ترامب. واجه ترامب مجموعة كبيرة من التهم وصلت حد الاتهام بالتجسس والتلاعب بوثائق الدولة، لكن أكثر ما أثار ضجة كان اتهامات التحرش والاغتصاب. كان ما تسرب من نمط حياة ترامب وطريقة تعامله مع النساء أثناء فترة حكمه، وكذلك العنف اللفظي، الذي تميز به خطابه العلني تجاههن، يجعل كثيرين يميلون لتصديق كل إدعاء ضده. في المقابل كان ترامب مرشحاً رئاسياً محتملاً لا يمكن التقليل من حجم شعبيته، ما جعل سؤالًا يفرض نفسه وهو: هل كان طرح هذه القضايا في هذا التوقيت محض صدفة؟ أم أنه كما يؤمن ترامب وأنصاره، كان جزءاً من مؤامرة يقوم بها منافسون، خاصة في ظل اجترار اتهامات بالاغتصاب تعود لأزمنة بعيدة، كما حدث في حالة اتهامه باغتصاب الصحافية جين كارول قبل خمسة وعشرين عاماً؟ لقد حازت حركة «مي تو» (أنا أيضاً)، التي كانت تشجع النساء على فضح المغتصبين، على دعم الملايين حول العالم، لكن الكثير من أولئك الداعمين يشعرون اليوم بأن الأمر انتقل من وقف استغلال النساء، إلى تسهيل استغلال وابتزاز الرجال، فيمكن لأي سيدة أن تدعي أنها كانت ضحية لأحد السياسيين، أو الرجال المعروفين، وأن تجد بذلك الدعم والمؤازرة من الجميع.
كاتب سوداني