تكاد تكون علاقة المرأة بالشعر علاقة جدلية، فحضور أحدهما استدعاء للآخر، سواء كان ذلك بشكل مباشرة أو بشكل غير مباشر، وهي بالتأكيد علاقة ضاربة في القدم، وكأن الشعر ولد في أحضان المرأة، أو أنها تلك المولدة التي سهرت على معانقته نور الوجود، حين تجود به قرائح الرجال، وحتى النساء أحيانا، ويمكن رصد هذه العلاقة، في تشابكاتها الوجودية والدلالية عبر التاريخ، وكأن الشعر لم يكن ليوجد إلا بسبب وجود آخر أسبق وأعمق وهو وجود المرأة بكيانها الفعلي أو بحضورها الرمزي، كان ما يزال معادلا موضوعيا للعطاء والخصب والعاطفة المشبوبة..
ولعل هذا الوجود الأخير دال بذاته ولا يحتاج دليلا على وجوده وتألقه في تاريخ البشرية جمعاء، فقد كانت المرأة وما تزال ملهمة للشعراء، تستدر قريحتهم، فتنهمر القصائد مدرارا، وإذا كان هذا الوجود الملهم صعبا على الحصر، فيكفي أن نتوقف عند بعض الشعراء العرب، الذين كانت المرأة ملهمة لهم بشكل صريح، فخلدوا بعض النساء في قصائدهم، التي تغنى بها الناس وما يزالون، إذ ما إن يمس الشاعر قبس من حب حتى تفيض نفسه شعرا، ومن هؤلاء الملك الضليل امرؤ القيس، الذي تنسب إليه القصيدة المشهورة، التي تغنى بها أكثر من مطرب عربي، حتى حفظها الناس ولهجت بها الألسن، وكانت أشهر هؤلاء المطربين الفنانة العراقية هيام يونس، وهي القصيدة التي يقول الشاعر في مطلعها
تعلق قلبي طفلة عربية .. تنعم في الديباج والحلي والحلل
ثم يسترسل في وصفها قائلا:
حجازية العينين مكية الحشى .. عراقية الأطراف رومية الكفل
تهامية الأبدان عبسية اللمى .. خزاعية الأسنان درية القبل
ومن هؤلاء الشعراء الذين اقترن اسمهم بالمرأة عمر بن ابي ربيعة، الذي كادت صفة شاعر الغزل تغلب عليه، فلا يعرف إلا بها، ومن ذلك قوله في قصيدته المشهورة التي مطلعها:
لَيتَ هِنداً أَنجَزَتنا ما تَعِد .. وَشَفَت أَنفُسَنا مِمّا تَجِد
وَاِستَبَدَّت مَرَّةً واحِدَةً .. إِنَّما العاجِزُ مَن لا يَستَبِد
ويقول فيها:
غادَةٌ تَفتَرُّ عَن أَشنَبِها .. حينَ تَجلوهُ أَقاحٍ أو بَرَد
وَلَها عَينانِ في طَرفَيهِما .. حَوَرٌ مِنها وَفي الجيدِ غَيَد
طَفلَةٌ بارِدَةُ القَيظِ إِذا .. مَعمَعانُ الصَيفِ أَضحى يَتَّقِد
ومنهم كذلك قيس بن الملوح أو مجنون ليلى الذي غلب عليه هذا اللقب حتى أخفى اسمه الحقيقي، ويحكى أنه صادف في طريقه رجالا يصلون فمر من أمامهم فأوقفوا صلاتهم، ونهروه قائلين، ألم ترنا ونحن نصلي، فرد عليهم والله لو أحببتم الله كما أحب ليلى لما رأيتموني، وهو الذي يقول في قصيدة له:
يقولونَ ليلى بالعِراقِ مَريضَةٌ … فيا ليتني كنتُ الطَّبيبَ المُداوِيا
تَمُرُّ الليالي والشّهورُ، ولا أرى … غَرامي لها يَزدادُ إلاّ تَمادِيا
وإذا ما عرجنا على العصر الحديث فيمكننا أن نكتفي من القلادة بما أحاط بالعنق، فنستحضر شاعر المرأة بامتياز الشاعر نزار قباني، الذي أبدع وأجاد وأوفى في الكتابة عن المرأة ككائن حقيقي حبيبة وزوجة وأما، كما كتب عنها باعتبارها رمزا للحياة والوطن والمدينة.. ومن هذه القصائد رائعته، التي كتبها بسبب الحرب الأهلية في لبنان، التي ذهبت ضحيتها مدينة بيروت خرابا وقتلا وهمجية، فكان تشبيهه لها بالمرأة أرق وأبلغ وأعمق ما يمكن أن يبلغه شاعر:
يا ست الدنيا يا بيروت
من باع أساورك المشغولة بالياقوت
من صادر خاتمك السحري وقص أظافرك الذهبية
من ذبح الفرح النائم في عينيك الخضراوين
من شطب وجهك بالسكين
وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين
ولم تكتف المرأة بدورها كملهمة للشعراء أو موضوعا للشعر فحسب، بل كانت وما تزال مبدعة للقصيد تتفنن في إنتاجه حسب ظروفها الخاصة، التي كانت في عمومها غير مشجعة، بخلاف ظروف الرجل، مما أتاح له التعبير الحر عن مشاعره، بينما كانت التقاليد وتمثل المجتمع الذكوري للمرأة مانعا لها من أن تخوض تجربة الخلق أو البوح الشعري. ومع ذلك لم نعدم وجود بعض النساء اللواتي ناضلن من أجل إيصال أصواتهن المبدعة، وأعتقد أن أقدمهن الشاعرة اليونانية سافو، التي اخترقت كل الطابوهات، فمنحت بنات جنسها طاقة متجددة للمقاومة وفرض الذات، بل أضحت رمزا للتحرر، تقول الشاعرة:
في ليلتي
راقبتُ من نفسي الثريا والقمر ْ
يتساقطان ْ
الآن نصف الليل ولى واندحرْ
يمضي الشبابْ
وأنا على هذا الفراش وحيدة ٌ
أما في ما يخص مدونة شعرنا العربي فيكفي ذكر اسم الخنساء، لتنتصب علما رفرافا، يطل علينا من شاهق، لقد أشعرت وأجادت، حتى عدها البعض من فحول الشعر ذكورا وإناثا، وقد خلدت أخاها صخرا في مراثيها الجميلة، ومنها قصيدتها التي رثته فيها:
يذكرني طلوع الشمس صخرا … وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي … على إخوانهم لقتلت نفسي
وإذا ما ولينا وجهنا قبل المغرب، أطل علينا وجه ولادة بنت المستكفي شاعرة الأندلس، التي لا يشق لها غبار، ولا يفتر لها لسان، حتى إنها أمست شاعرة الغزل بامتياز، فجعلت بجرأة مشهودة الرجل موضوعا لغزلها:
أغار عليك من نفسي … ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني … إلى يوم القيامة ما كفاني
أما في عصرنا الحديث، فنتيجة للتحولات الاجتماعية والثقافية العميقة كثرت الشواعر، فلا تكاد تفتح مجلة عربية إلا وتجد فيها نصا أو أكثر لامرأة شاعرة، وكذلك الشأن بالنسبة للدراسات النقدية. وسنمثل لهن بالشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، التي ساهمت رفقة عدد من الشعراء في تأسيس الحداثة الشعرية، من خلال التمرد على عمود الشعر وتوطين قصيدة التفعلية، وقد تغنت الشاعرة بالوطن والحرية، تقول في إحدى قصائدها:
حريتي!
حريتي!
حريتي!
صوتٌ أردده بملء فم الغضب
تحت الرصاص وفي اللهب
وأظل رغم القيد أعدو خلفها
وأظل رغم الليل أقفو خطوها
وأظل محمولاً على مدّ الغضب
وأنا أناضل داعياً حريتي!
حريتي!
حريتي!
ومن كوكبة شواعرنا في المغرب نختم بشاعرة اتفق النقاد على إجادتها للشعر شكلا ومضمونا، مسلحة في ذلك برؤيا عميقة وسبك متماسك وتجربة طويلة في مراودة الشعر، تقول مليكة العاصمي في مقطع من قصيدة يوم حلول القيامة:
وحدكَ الآن
يفترسُ الرُّخُّ قلبَك
شبَحا صِرتْ
دون ماضٍ ولا حاضرٍ أو غدٍ
طَوَّحتْكَ العفاريتُ في القفرْ
لا سَكَنٌ أو وِطاءٌ تُريحُ به جُرحَكَ المتفَغِّرَ
ينهشُهُ النسرْ
واقفٌ تتآكلُ ساقاكْ
ستَخِرُّ إلى اللاَّمكانْ
لا عمَدٌ يُسنِد ذاتَكَ
لا كفٌّ يلقُطُ بعضَ الإرَبِ المَنثورةِ من حُلمِكَ
كاتب مغربي
المرأة,
الشعر