لماذا جذبني هذا الكتاب للباحثة عبير إبراهيم قمرة، أنا الذي قرأت عشرات الكتب عن الإسكندرية تاريخا وعمارة وبشرًا وكتبت عنها روايات عديدة؟ عنوانه هو الذي جذبني. الكتاب صدر حديثا منذ ثلاثة أشهر في دار العربي للنشر في القاهرة.
كذلك ما جذبني أنه هنا موضوع واحد هو الجندرية، أو النوع، أو ما يشير إليه المعنى الشائع عن النسوية، رغم اختلاف الترجمات لكلمة (جندر) التي آثرت الباحثة استخدامها مُعرَّبة. فلنكن أكثر بساطة ونقول إن الكتاب يتحدث عن وضع وحركة النساء وتطورها في المدينة العالمية، الإسكندرية، في العصر الحديث. الكتاب مكون من ثلاثة أبواب بعد التمهيد، وكل باب ينقسم إلى فصلين. الباب الأول يناقش ازدهار المدينة، بدءا من القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، وكيف تكوّن المجتمع السكندري والهجرة إلى المدينة من الداخل، ومن كل الدنيا، ولن أقف عنده، رغم الكثير من الجديد فيه ويمكن تلخيص الأمر كله بأن مصر كانت أم الدنيا، ليس لقدمها – وهذا ما أقوله دائما – لكن لاتساعها للناس من كل العالم.
الباب الثاني يناقش النساء والعمل والتعليم في الإسكندرية، ويناقش الباب الثالث والأخير الحياة المدنية ونماذج منها مثيرة جدا. أول ما أعجبني وربما أذهلني في الكتاب هو كمية المراجع من كتب عربية وأجنبية وصحف مصرية ووثائق من المحاكم الشرعية، وهذا قليل في زماننا في كتابة الرسائل الجامعية، ما يؤكد جدية الباحثة عبير إبراهيم قمرة التي تكلفت كل هذه المشقة من أجل بحثها الذي جاء بالفعل كتابا رائعا. نعرف من الكتاب أن نسبة الإناث إلى الذكور في المدينة كانت ما بين 47% و49% في السنوات ما بين 1882 – 1960 وهي نسبة غير قليلة. أما من أين هن فالكثيرات سكندريات، ومنهن النازحات من الريف، ومنهن اللاجئات من كل العالم تماما كالرجال، من الشام والمغرب وأوروبا وروسيا. يهوديات وأرمنيات وإنكليزيات وفرنسيات وغيرهن، ومن كل الطوائف والأديان. الهجرة التي كان وراءها الاضطهاد العنصري في أوروبا، أو في بلاد الخلافة العثمانية، أو الحروب أو البحث عن عالم أفضل. المثير أن أعداد النساء الأجنبيات كان أكثر من أعداد الرجال الأجانب، تتقصى الرسالة الأرقام بالتفصيل، وبالطبع كان لا بد من الوقوف عند الهوية القانونية للمرأة، التي حددتها قوانين الجنسية التي ساوت بين الجميع، وكان من ملامح دستور عام 1923 تسوية أوضاع سكان مصر، الذين كانوا يُعتبرون من قبل رعايا للدولة العثمانية. الدستور الذي منح المقيمين في القطر المصري حرية اختيار الجنسية، رغم أن القوانين كانت كثيرا ما تؤخر الحصول على الجنسية. كانت المرأة تتبع في جنسيتها الزوج، ورغم ذلك كان بعض النساء يتقدمن للحصول على الجنسية ويحصلن عليها مثل، رمزا يعقوب باسيلي وإستر ناتان الإيطالية وربيكا صُنفِت النمساوية وغيرهن طبعا، فالباحثة تعطي أمثلة كثيرة. الهجرة من الخارج كانت متنوعة الأسباب، فإما التحاقا بالأسرة، أو من أجل الزواج، فتأتي السفن بنساء اتفقن على الزواج من قبل، أو كعشيقات أو بحثا عن عمل أو هروبا من المذابح والاضطهاد، وكان من المألوف أن ينشر بعضهن إعلانات يطلبن فيها العمل، وهذا منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر. كذلك كانت تصل نساء من الخارج ضمن شبكة تجارة الرقيق الأبيض والبغاء، وكانت الإسكندرية محطة رئيسية في تلك التجارة، وكان التجار في معظمهم إيطاليين أو يونانيين، وكيف كانت مقابل ذلك لجان تتكون لإنقاذ النساء من هذه التجارة، تمنع أحيانا السفن من الرسو في الميناء، لكن كانت السفن تجد ميناء آخر مثل ميناء بورسعيد.
نعرف من الكتاب أن نسبة الإناث إلى الذكور في المدينة كانت ما بين 47% و49% في السنوات ما بين 1882 – 1960 وهي نسبة غير قليلة. أما من أين هن فالكثيرات سكندريات، ومنهن النازحات من الريف، ومنهن اللاجئات من كل العالم تماما كالرجال، من الشام والمغرب وأوروبا وروسيا.
وتقدم الباحثة كثير من المعلومات والإحصاءات عن أعداد الفتيات القاصرات اللاتي أوتي بهن من أجل هذه التجارة، وأعداد التجار، ففي عام 1919 تم ضبط 1200 فتاة صغيرات السن عند إنزالهن في ميناء الإسكندرية، وتورط أربعون شخصا أغلبهم من الرعايا الأجانب في المسألة، وكانت الفتيات أوروبيات، مسيحيات ويهوديات وعثمانيات ومسلمات أيضا من تركيا، وكان الأمر يزداد بازدياد المتاجرين في الرقيق والبغاء، وبين ذلك كان هناك نهوض في التعليم والحياة. وتقدم الباحثة أسماء لامعة مثل الكسندرا بنت قسطنطين نعمة الله خوري صاحبة مجلة «أنيس الجليس» التي صدرت في الإسكندرية عام 1898، وكذلك هند نوفل صاحبة مجلة «الفتاة» التي صدرت في الإسكندرية عام 1892 وكانت أول مجلة نسائية مصرية في مصر، وبنيلوب دلتا أول كاتبة يونانية لقصص الأطفال، ونيللي زنانيري الشاعرة صاحبة ديوان «روضة الصباح»، وطبعا في ما بعد الملكة فريدة الزوجة الأولى للملك فاروق ونيللي مظلوم إيطالية الأصل الفنانة والراقصة الشهيرة والمخرجة آسيا وغيرهن.
تنتقل الباحثة إلى النساء والعمل، فتقدم الكثير عن المعركة من أجل عمل المرأة وتعليمها، منذ رفاعة الطهطاوي حتى نبوية موسى وعائشة التيمورية وزينب فواز وملك حفني ناصف والعشرات، مرورا طبعا بقاسم أمين، وكيف نجحن في أن تتساوى المرأة مع الرجل في الشهادات المدرسية وفي راتب العمل، وكيف تزداد نسب النساء العاملات في التجارة والصناعة والنقل والخدمات، وتقف عند مهن الخادمة والغسالة والمربية والمرضعة، وأين وفي أي عائلات تتواجد هذه المهن، ويضاف إليها مهن الترفيه مثل مغنيات المقاهي والمراقص والجنس، ومعها الصحافة والكتابة والتعليم، وأعدادهن التي تزداد بعد رحلة رائعة عن تطور تعليم البنات منذ أول مدرسة انشأها محمد علي للولادة، إلى مدارس أنشأها المجتمع المدني، ابتدائية وثانوية، إلى جوار مدارس الإرساليات الأجنبية، وإحصاءات توضح ازديادها في المدينة، وأسماء من البارزات فيها ونسب البنات التي تزداد في مدارس الجنسيات المختلفة، ففي عام 1907 مثلا كانت نسبة المتعلمات في الإسكندرية 12%، بينما هي في القاهرة 8% وهكذا. ثم تناقش الزواج وقوانين الأحوال الشخصية ويعرف القارئ أن كثيرا من الجاليات والأديان المختلفة كن يعقدن زواجهن على الطريقة الإسلامية في المحاكم، وليس على طريقة أديانهن، ورغم ذلك لم ترتفع نسبة الطلاق في هذه الزيجات التي كانت تعطي المرأة أحيانا العصمة في يدها، كما تعطي الرجل حق الطلاق. نسبة الطلاق لم تتجاوز الثلاثة في المئة من الزيجات، وكعادتها تذكر أسماء زيجات كثيرة بين المسيحيين البروتستانت والأرثوذوكس واليهود، وبينهم وبين المصريين المسلمين. ثم تقدم حالة مبهجة في وصف الأفراح التي كانت تستمر عند الطبقات العليا بالأسبوع، وتقدم الأسماء والأمثلة من الأعيان والأمراء والأميرات وكيف انتقل ذلك إلى الطبقة الوسطى ثم الأقل، وعقود الزواج والمهور التي كانت تتناسب مع مهنة الزوج، وتقدم جدولا مثيرا بالمهن والمهور حصلت عليه من عقود الزواج في المحاكم الشرعية، وكيف حين بدأ تقليد الأوروبيين بالاكتفاء بحفل واحد لليلة الزفاف، وعشاء المعزومين ضاعت بهجة الأفراح الشرقية كما قالت نبوية موسى عن هذا التقليد الأحمق. بالطبع يأخذنا الزواج إلى البيوت وأشكالها وتأسيسها، فالمنزل اللائق هو الجيد التهوية والإضاءة المطل على شارع واسع، والقريب من الخدمات العامة مثل، المستشفيات والمدارس تحيط به جيرة طيبة. وتفاصيل جهاز العروسة الذي تُدهش له وتكلفة هذا كله وأسماء من المتزوجين والمتزوجات ومهنهم وكثير جدا من التفاصيل الرائعة يضيق بها المقال، حتى تصل إلى الجرائم، وبالطبع تقف عند ريا وسكينة، وكذلك استخدام الأجانب للنساء في تهريب الحشيش من الخارج، وأسماء وقضايا وما ينتهي الكتاب حتى تكون الباحثة عبير إبراهيم قمرة قد أقامت للقارئ قصرا سحريا من نساء المدينة العالمية وما أجمله من قصر.
٭ روائي من مصر
من مواليد مدينة الاسكندرية المغني العالمي ديميس روسس .والنجم العالمي عمر الشريف.و من مواليد مدينة الاسكندرية ايضا الشاعر اليوناني قسطنطين كافافيس ولد و مات في الاسكندرية و هو واحد من اعظم الشعراء في العصر الحديث تحول منزله إلى متحف وكتب عنه الكثير.
جهد عظيم مشكور عن مدينه عظيمه