ذكرنا في مقالين سابقين كيف قامت الحضارة الغربية بتسييد الإنسان المطلق في الموضوع الأخلاقي، وتهميش الدور الإيماني الروحي الديني، كمصدر للقيم الأخلاقية في كل شؤون الحياة التي تهم الإنسان. من هنا الأهمية الكبرى لبناء مرجعية ذاتية عربية للقيم الإنسانية والأخلاقية، تأخذ بعين الاعتبار تاريخ وثقافة هذه الأمة وتراثها الروحي الإيماني البالغ التجذر في نفوس وعقول شعوب هذه الأمة، مع الاستفادة من فكر ومرجعيات الآخرين، التي لا تتعارض مع ما نريد بناءه لحضارتنا.
إن ما يعطي أهمية للمرجعية الدينية، كجزء مهم وأساسي في بناء المرجعية الذاتية هو الآتي:
أولاً الاتفاق شبه العام على أن الدين، إضافة للجوانب العقائدية والتعبدية منه، هو رسالة أخلاقية في الدرجة الأولى، وهي في كثير من تفاصيلها تأكيد لكثير من القيم الأخلاقية الفطرية عند الإنسان.
ثانياً، هناك فرق بين الاستجابة الإنسانية لقيم أخلاقية وضعها الإنسان، وبالتالي قابلة لأن تكون مليئة بالثغرات والأخطاء، وبالتالي أيضاً غير ملزمة وقابلة للأخذ والعطاء والاستعمالات الانتهازية، وقيم هي أوامر وتوجيهات إلهية عليا تتصف بالطبع بالكمال المطلق. هذا بالطبع بالنسبة للإنسان المؤمن المصدّق المستسلم لوجود الإله الذي يسميه دينه ويأمر بطاعته.
هناك فرق بين الاستجابة الإنسانية لقيم أخلاقية وضعها الإنسان، قابلة لأن تكون مليئة بالثغرات والأخطاء، وقيم هي أوامر وتوجيهات إلهية عليا تتصف بالطبع بالكمال المطلق
ثالثا، وكنتيجة لتوفر ما جاء في ثانياً من إيمان صادق، لا يمكن للإنسان إلا أن يؤمن بأن الإله الذي يعبده هو مراقب لتصرفاته ولالتزامه بالقيم الأخلاقية التي أمر الله بها مثلاً في دين الإسلام. إن شعور الإنسان العميق بأن هناك من يتابع كل صغيرة وكبيرة في ممارسته للقيم الأخلاقية المأمور بها من قبل السلطة الربانية، وأن تلك السلطة تراقب الظاهر والباطن وتعرف السر وما خفي، تجعل أخذه بعين الاعتبار لكل قيمة أخلاقية ليلاً ونهاراً، ظاهراً وباطناً، وليس بصورة انتقائية نفعية. هذا الإنسان يعرف أن المساس بالقيم الأخلاقية هو مساس بايمانه وبعقيدته وبالتالي بقربه أو بعده من الرب القدير.
بالنسبة للمسلمين هناك القرآن الكريم، الذي يزخر بالتوجيهات والأوامر القيمية الأخلاقية، وهناك الأحاديث النبوية المؤكدة المطهرة، وهناك أيضاً الكثير من الاجتهادات الفقهية المتزنة المرتبطة بالموضوع. نحن بالفعل أمام مصادر هائلة وغنية من التوجيهات الأخلاقية، التي في اعتقادي ستغطي الموضوع برمته، موضوع الفضائل والرذائل. وبالطبع فإن الإخوة المسيحيين لديهم مصادرهم ومرجعياتهم الدينية المتعلقة بالموضوع. المهم بالنسبة لهذا الموضوع هو الرفض التام لمحاولات فصل الدين، كمرجعية، عن الأخلاق، قيماً وممارسات، إذ أن ذلك سيكون كارثة لكل مناحي حياة الإنسان الدنيوية. سيكون من الخطأ الاكتفاء بذلك النبع المهم وحده، ذلك أن إبعاد العقل والإرادة على الأخص، بالنسبة لهذا الموضوع، سيبعد الإنسان عن واقع تطبيقات وسلوكيات الأخلاق الإنسانية، التي تتغير وتتبدل عبر الأزمنة. من هنا الأهمية القصوى للارتهان إلى العقلانية الإنسانية، وإلى الإرادة الحرة الإنسانية للتعامل مع هذا الجانب من حقل القيم الأخلاقية، وإبعاده عن التزمت والإنغلاق من جهة، ولكن وفي الوقت نفسه، حمايته من العبث والعابثين، كما يحدث الآن في الكثير من المجتمعات، وعلى الأخص الغربية منها، كما أسلفنا في مقالات سابقة. فالمحاولات العبثية الحالية هي في الواقع تظلم الأخلاق والدين، وتؤدي إلى تشويه الاثنين، على الرغم من أنها تدعي أنها ستحرر الاثنين من تبعات كل منهما.
ما يحتاج شباب وشابات هذه الأمة معرفته، هو أنها جرت محاولات كثيرة عبر أكثر من قرن لبناء تلك المرجعية العربية، من دون الوصول إلى توافق عام بالنسبة لتفاصيل هذا الموضوع. وهناك ضرورة لأن تضع شابات الأمة ويضع شبابها جهداً مكثفاً للاطلاع على أدبيات الموضوع. وليس بغريب على هذه الأمة أن تحاول عبر القرن الماضي أن تبني المرجعية الذاتية، ذلك أن موضوع الأهمية الكبرى للعقل الإنساني كمتفاعل وموضح للرسالة السماوية، قد خاضته جماعات المعتزلة في الماضي، ويحتاج الآن لمعاودة النظر في ما قالته وتجديده، وبالتالي فالعقلانية ليست غريبة على هذه الأمة وكذلك موضوع الإرادة الإنسانية الحرة قد نوقش مطولاً في الماضي، وبالتالي ليس بالموضوع الغريب. إن مناقشة الأمرين كجزء من بناء المرجعية الأخلاقية أصبح من الضرورات. عليه، فسنستمر في طرح هذا الموضوع حتى نجعله واضحاً وأساسياً في عقول ونفوس وضمائر شبابنا وشاباتنا.
كاتب بحريني
الدين شيء ثابت , أما الأخلاق فهي متحركة. أنا لا أفهم لماذا يجب وضع الإثنين في كفة واحدة. الأخلاق الدينية التي كانت ربما تصلح لأزمان قديمة أكثرها لم يعد يصلح اليوم وقد وضعت جانبا . اشياء كانت جزءا من صميم أخلاق ذاك الزمن بعضها ديني وآخر لم يعترض عليه الدين.
عن المعتزلة , طبعا هم قدموا العقل قبل النقل وحاولوا إيجاد تفسيرات قريبة للمعقول منها عن كون أنها فسرها السابقون على نحو ربما وجدوه بعيدا مع تطابق العقل. لكن – برأيي – لم يصلوا في عملية إصلاحهم هذه إلى أن يقطعوا مع أشياء سلبية أخرى بل ثبتوا جذزرها وحموها . عملية إصلاحهم هاته كانت فوقية من رأس الهرم, بمعنى كانت برعاية وحماية الخليفة العباسي المأمون الذي لم يكن يرحم خصومهم ما عجل بظهور تيارات متطرفة , بمجرد ما أن سقط المأمون سقطت معه تجربتهم فشردوا وقتلوا …. ربما لو تجذرت أفكارهم منذ ذاك الزمان وتطورت لكنا اليوم في موقع أفضل.
ما جاء في بالي ذكره.. هي ملاحظة ليست وليدة هذه اللحظة وهي باختصار:
لماذا لا يكون هناك جهد جماعي مِن قِبل مفكرين عرب يجمعهم توجّه عام واحد بدلاً من محاولات فرديّة لا توصلنا لنتيجة بحكم تشعّب الموضوع وغزارته.. ونظراً لأنه غالباً ما يأتي مثل هذا الجهد في وقت متأخِّر من عمر المرء، بينما العمل الجماعي سيكون ضامناً أكثر لعملية مستمرة “لبناء المرجعيّة العربيّة” كما يعرِّفها أو يطلق عليها الدكتور فخرو، حتى الوصول إلى الهدف أو إلى مرحلة قريبة منه.. بحيث يتم الجهد، في الحالة الأخيرة، لتكملة المسار بعدها للوصول للهدف المنشود.