غزة ـ «القدس العربي»: تعيش سماح أبو عمشة، 34 عامًا، وهي مواطنة فلسطينية من شمال قطاع غزة، حياة قاسية داخل مبنى دورة مياه عمومي، حيث تنزح رفقة عائلتها في مدينة خان يونس، رغم معاناتهم من أورام سرطانية خطيرة.
سماح اضطرت للنزوح رفقة أسرتها 14 مرة، بدءًا من شمال قطاع غزة، مرورًا بالمحافظة الوسطى، وصولًا إلى جنوبي القطاع، تقول إن معظم هذه الرحلات كانت سيرًا على الأقدام، بسبب نفاد ما معهم من أموال، واستشهاد العائل الوحيد للأسرة في حرب سابقة.
وتشير الأم الفلسطينية إلى إصابتها ووالداتها وواحدة من بنتيها الاثنين بمرض السرطان، فيما يتضرر الابن الأكبر من زيادة كهرباء المخ، مضيفة أن أعراض تلك الأمراض تتفاقم عليهم مع الإقامة في بيئة ملوثة «رائحة الحمامات الكريهة تقتلنا في كل يوم وكل ساعة».
تصف سماح مكان نزوحها بأنه «غير صالح لإقامة الحمير» فما بالك ببني آدميين مرضى سرطان؟ ناهيك عن عدم توفر خيمة تستر أفراد العائلة خاصة مع حلول فصل الشتاء.
تقول لـ«القدس العربي»: «أولادي يشعرون بالبرد الشديد. ابنتي مريضة السرطان أصيبت بالتهابات في الأمعاء، لأن مناعتها ضعيفة ولا يوجد حتى شادر يحميها من برودة الطقس».
تتذكر سماح حينما كانت العائلة نازحة قرب شاطئ البحر في مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، كيف علت أمواج البحر وأغرقت خيمتهم، قبل أن تبتلع ما فيها من فرش وأغطية، ما اضطرهم إلى النزوح بالملابس التي تستر أجسادهم فقط، موضحة أنهم دائمًا ما يتركون أغراضهم وراءهم في كل رحلة نزوح، تفاديًا للاستعانة بوسيلة مواصلات باهظة الثمن تنقلها إلى الوجهة الجديدة.
ومن دير البلح نزحت العائلة إلى مدرسة الجاعوني التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا» في مخيم النصيرات، حيث شهدت المجزرة التي أسفرت عن ارتقاء 17 شهيدًا وإصابة العشرات، وعن ذلك تتساءل: «كلنا كنا لاجئين أبرياء، وتواجدنا هناك بأوامر جيش الاحتلال، الذي ضربنا هناك. طيب وين نروح؟».
وتشير إلى أنها وأسرتها يعيشون في رعب دائم «في المدرسة طفل رمى وعاء على الأرض، فأحدث صوتًا يشبه الفرقعة، ففزعت، معتقدة أنه صاروخ نازل علينا، أصبحنا نخاف من أي صوت».
وفي خان يونس استسلمت الأسرة المريضة للإقامة في المراحيض، كونها لم تعد قادرة على نزوح ثان سيرًا على الأقدام، لذا تخشى سماح أن يفرض عليهم جيش الاحتلال إخلاء منطقة سُكناهم في خان يونس.
تضيف بحسرة: «جئت إلى المحافظة الجنوبية وأنا خائفة يقولوا لي انزحي. واحنا خلاص تعبنا، وما معنا مصاري للنقل، ولا نعرف مكانًا آمنًا نذهب إليه، راضون بالهم ونريده أن يرضى بنا».
ولكن سماح تشعر بالقلق على أسرتها المنهكة بالأمراض من أمطار الشتاء: «أنام مع أولادي دون فراش، على البطانية، البرد في الليل يأكل بطوننا، وكيف لما يجي المطر بزيادة؟! أنا متوترة جدًا، لأنني لا أعرف حتى متى ستستمر هذه المعاناة».
يعمل ابن سماح أجيرًا في جمع الأحجار من أنقاص المنازل المدمرة، مقابل 10 شواكل فقط يوميًا، لا تساوي حجم المخاطرة التي يتكبدها في مناطق توغل جيش الاحتلال، أو شعور الأم بالقلق على حياته: «بقول له: يا ابني خايفة يخبطوك، وأنت ولدي الوحيد. فيرد عليّ: ومن أين نأكل يا أمي؟ فش دخل».
شابت قبل الأوان
فقدت سماح كل ما تملك عندما قصف منزلها في بيت حانون، في السابع من أكتوبر 2023 متضمنًا الشقة، التي بنتها إحدى الجمعيات الخيرية، وزودتها بمختلف الأجهزة الطبية، لرعاية طفلتها المريضة بالسرطان.
وتردف: «كان في الشقة غرفة عزل تتضمن جهاز العلاج بالكيماوي، كله راح، كله اتدمر، وكذلك ألواح الطاقة الشمسية والمكيفات، لم نخرج بشيء».
تناشد المواطنة الفلسطينية دول العالم بمساندة أسرتها والشعب الغزي بعد عام كامل من العدوان الإسرائيلي على القطاع: «أيها العالم! لقد تعبنا. أصبحنا فقراء جدًا لا نملك حق قطعة الصابون. نموت في اليوم ألف مرة مع أصوات القصف. شعر ابنتي البالغة من العمر 10 أعوام أصبح أبيض، شابت قبل الأوان».
وتتساءل: «لا أدري إلى أين أذهب بابنتي المريضة وسط عدم توافر أدوية السرطان في قطاع غزة؟ أين الأمة العربية مما يحدث للنساء والأطفال والعجائز والمرضى في فلسطين؟».
وتتضاعف معاناة النزوح بالنسبة للغزاويات خاصة المرضى والعجائز منهن، كونهن لا يقدرن على السير مسافات طويلة وسط غياب المواصلات وارتفاع أسعارها ونفاد ما معهن من أموال، بالإضافة إلى تضررهن من شح الطعام الصحي اللازم لمقاومة الأمراض، وتحمل أعباء توفير المياه وإعداد الطعام في بيئة النزوح البدائية القاسية.
ونشر الأمراض وفرض الجوع والتشرد سياسة متعمدة من قبل الاحتلال، بهدف كسر إرادة الشعب الفلسطيني، خاصة نسائه؛ مستقبل الوجود الفلسطيني، القادرات على إنجاب الأجيال تلو الأخرى، وتنغيص حلم الصهاينة بفلسطين دون شعب عربي. وهي سياسة تسميها نائلة أبو عمشة، والدة سماح، بـ«ثالوث التركيع الصهيوني».
مسنة مصدومة وتعيسة
تعاني ضعفًا في المناعة وهشاشة في العظام جراء إصابتها بمرض السرطان، الذي أنهكها وأجبرها على الخضوع لجراحتين لاستئصال الغدة الدرقية والرحم، قبل تعافيها من أزمتين قلبيتين، ورغم ذلك نزحت مع عائلتها 14 مرة، بينها أكثر من 7 مرات سيرًا على الأقدام، بمعدل 5 كيلومترات مشي في المرة الواحدة.
تؤكد المرأة البالغة من العمر 65 عامًا حاجة العائلة الماسة للأموال من أجل شراء الأطعمة المقوية للمناعة مثل البيض والفواكه والطماطم، وهي أطعمة صارت شحيحة جدًا في قطاع غزة، وارتفع سعرها بشكل مبالغ فيه، فيما تشير إلى أنها أصبحت شاردة الذهن وغاضبة دائمًا، تنسى اتجاه القبلة للصلاة، بسبب تفاقم معاناة النزوح والمرض عليها.
تشعر المسنة الفلسطينية بالتعاسة الشديدة، بسبب ما تراه يوميًا من هول ما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في كل شبر من قطاع غزة، لكنها تحمد الله أن عقلها لم يذهب، وتستطيع الكلام بعد عام على حرب السابع من أكتوبر.
تقول: «أعيش صدمة نفسية كبيرة، رأيت جيراني وأحبابي وأقاربي مقطعين أشلاء، يوميًا أسمع عن معاناة أهلي في الشمال من الجوع والعطش».
وترى الجدة الفلسطينية الشهيرة بـ«أم سامر» أن كل أهالي قطاع غزة «قد تحولوا إلى مشاريع شهداء، الآلاف منهم ماتوا وأصيبوا، والآخرون ينتظرون في طابور الموت» لأن العالم قرر الخضوع للاحتلال، بعدما تبلدت مشاعره تجاه الفلسطينيين، الذين ألِف رؤيتهم يموتون ويشردون على الشاشات: «أصبحنا فيلمًا سينمائيًا كئيبًا أمام مشاهد متجرد المشاعر».
وتقيم سعاد أبو الخير، 76 عامًا، على الرصيف بالقرب من مستشفى ناصر الطبي، للعناية الصحية مع حفيدها البالغ من العمر 5 سنوات، الناجي الوحيد من أبنائها وأحفادها، بعد ما قتلت الغارات الجوية الصهيونية جميع أبنائها وأحفادها في منازلهم شرقي خان يونس.
بصوت مبحوح تتذكر الفلسطينية الطاعنة في السن، كيف استهدفت المقاتلات الحربية للاحتلال منزل ابنها البكري في قرية عبسان خلال الأيام الأولى للحرب في ساعة متأخرة من الليل، ليموت رفقة زوجته وأبنائه الثلاثة بعد محاولات حثيثة من الأهالي والطواقم لإسعافهم دون جدوى، قبل أن تبكي: «ملعونة الحرب هذه أخذت مني ولادي، وشردتني، أنام في الشارع، والله من يوم ما استشهدوا لم أر يوما جميلا».