«المريد الأصم»… أو استعادة السمع بالكتابة

حجم الخط
0

تظن آسيا جبار أن الكتابة تعيد للأصم سمعه، تداويه وتعيد إليه ما ضاع منه، كما كتبت في «الحب، الفانتازيا» في رأيها أن الكتابة نظير الصمت، من شأنها إعادة الصخب إلى أذني من لا يسمع، ومساعدته على غربلة الأصوات، بل تجعل الكتابة من صاحبها مرئياً أكثر، يبدو أن ريبر يوسف قد التقط تلك الملاحظة وهو يكتب روايته «المُريد الأصم» (دار ممدوح عدوان، 2021) جعل من بطله الأصم المسمى (ي) كائناً مغامراً بين الأصوات، لا يسمعها لكنه يصورها في ذهنه، لا يفهم عدا لغة الإشارة، لكنه يملك لغة أخرى لم يعلم سرها أحد غيره، فمن الوهلة الأولى، يخيل لنا، في الصفحات الأولى من الرواية، أننا بصدد عمل يعلي من قيمة السكوت، لكننا شيئاً فشيئاً نجد أنفسنا إزاء رواية حيث الضجيج يملأ صفحاتها، من ضجيج الأحداث الدامية التي عرفتها سوريا قبل عشر سنوات، إلى ضجيج مناجاة البطل وانعزاله في استحضار ماضيه وعلاقته المستعصية مع والده.

أن تروي حياة لم تعشها

لم يحس بطل الرواية بحاجته إلى الصوت قبل أن تندلع الأحداث في سوريا. «لم تنتبني قط رغبة السماع والصراخ قبل الحرب في البلد، كنت قد لامست حقيقة وآمنت بها: وهي أن الصوت كائن خرافي لا وجود له، إلى أن خرج كل في سبيل رغبته المبطنة إلى الشارع، وبدأت أقرأ أصواتاً مكتومة تملأ البلاد، وكان الصوت أصل الحرب، الأمر الذي جعلني أحيا عزلةً لم أنتبه إليها قط». هذه العزلة التي شابت حياته السابقة سوف تستحيل ضوضاء يعيشها من داخله، ينظر إلى العالم من حوله ينهار، وهو يحاول تدوين الأصوات كي يفهمها، فمنذ بدء ما حصل في سوريا، اعتكف (ي) في حياة ضيقة، في قبو تصل إليه أصوات لا يسمعها لكنه يدرك معناها. «القبو الذي استودعني أبي إياه في لحظات الهلع عليّ، كان الموت في كل مكان، وكنت أرى الجثث عبر يديه المرتجفتين، وبدا أبي في تلك الأوقات هشاً بريئاً في اللحظة ذاتها، بدا خائفاً كأنه هو من نال من القتلى كلهم، بدا أبي معادلة عصية على الإدراك». في ذلك القبو سوف يحول البطل السكوت الذي يلفه إلى كلمات، إلى كتابة، ويشرع في تسويد رسائل إلى شخصية (ر) يروي فيها ما لم يعشه، بل ما يتخيل أنه عاشه، يكتب (ي) سيرة متخيلة كان بإمكانه أن يعيشها لو لم تمت أمه في الوضع، ولو لم تسل الدماء في بلده.

لا تبدو «المريد الأصم» رواية قارئ عادي، بل هي رواية قارئ جريء، هي باب لا يلج إليه سوى من تحرر من عبء الرواية الكلاسيكية، ومن رضي بالمغامرة التي لا يمكن أن نتوقع عواقبها.

في هذه الرسائل التي يكتبها (ي) إلى (ر) فهو يكتب ما يُشبه سيرة ذاتية متخيلة، كما لو أنه آن فرانك لكن بصيغة المذكر، بينما أصوات الرصاص وصراخات تملأ الأجواء السورية، يركن البطل في الداخل كي يسرد الوقائع، التي تمور في باطنه أو في الخارج، مثل أصمّ لكنه يتفوق على أصحاب السمع في رسم ما يحصل، يكتب سيرة العزلة بصحبة والده، عن مخاوفهما وحوادثهما الصغيرة والمتكررة كل يوم، يكتب ريبر يوسف قصته بضمير المتكلم، حيث السؤال يطغى على الإجابة، حيث الخوف ضامر واللامبالاة ظاهرة، يعلمنا كيف ندفن حرباً تجري خلف عتبة بابنا، دون أن تمسنا شظية من شظاياها.

شاعر يلتقط صوراً

من البداية، وضع المؤلف بطله وسط مدينة عبثية، هذه المدينة تُختصر في القبو الذي أقام فيه، والذي لا يقل عبثية عنها، لذلك لم يبدو عليه تكلف في سرد الأحداث من منظور خطي، ولم يبالغ في واقعية محشوة، بل ساير مزاج (ي) في كتابة شذرات أحيانا، وسرد قصص مختصرة، في مزج الشعر بالنثر، مع فصول قصيرة، أحياناً أخرى، مع ما تخللها من بحث نفسي ومن نشر صور، لذلك لا تبدو «المريد الأصم» رواية قارئ عادي، بل هي رواية قارئ جريء، هي باب لا يلج إليه سوى من تحرر من عبء الرواية الكلاسيكية، ومن رضي بالمغامرة التي لا يمكن أن نتوقع عواقبها، هي نص مفتوح على الشعرية وعلى اللف والدوران في زاوية صغيرة، بينما العالم الفسيح خلف الباب يمضي إلى عزائه. يقول (ي) في واحد من المقاطع: «مهما كان الآخرون، ومهما فعلوا، لن يكون في مقدورهم فهمنا نحن الصم، نحن بالنسبة إليهم فيلم طويل وأبدي» بل إن والده، الذي رباه وعلمه، تعسّر عليه فهمه. لكن بطل الرواية خلق من الصمم صوتاً له، من السكون جلبة تدور في رأسه، لا لغة له في التعبير عنها سوى بالكتابة. لم يكن (ي) أصمَّ بمعنى الكلمة، بل كان متكلماً، لكنه يتكلم في داخله، مع نفسه، مع رسائله إلى شخصية (ر) ويومياته، لكن لماذا انحاز المؤلف إلى تسمية الشخصيتين بحرفين بدل اسمين؟ لا بد أن غرضه إنما يوجد أمثال (ي) بالآلاف في سوريا، أولئك الذين يرون ويعرفون لكن ليس بمقدورهم الكلام، ولا التوجع، هؤلاء السوريون الصم منذ 2011، الذين شاهدوا بلادهم وهي تتزين للجنائز، دون أن تكلّ من دفن موتاها، هؤلاء الصم، الذين سلب منهم حق الكلام هم الأغلبية التي لا يصغي إليها أحد. على الأقل فإن (ي) كان أصمَّ فقط، وتلك خصلة، بل الأصم له فضل على صاحب اللسان الكاذب، بطل الرواية لم يتكلم في وجه الناس، لم يسمعه أحد يرفع صوته، لم يجادل، لم يعلق على الأحداث في الخارج، لم يرفع شعارات ولم يصرخ، لكنه على الأقل لم يكذب، لم يفعل ما فعل ذوو الأصوات الصاخبة. أدرك أن علته هبة من السماء، أن فقدان الكلام يحيله إلى سلام ذاتي، أن ينصرف إلى الكتابة ونظم الشعر والتقاط الصور والتحديق إلى حركات والده وسكونه، ثم يعايش حزنه عليه في صمت أيضاً، دون استجداء تعاطف الناس معه، ودون مبالغة في البكاء أو النحيب. لقد عاش (ي) بطل «المريد الأصم» فاقداً واحدة من حواسه، مستعيناً بالحواس الأربع الأخرى في مجابهة العيش، كما لو أنه يدعو ربه أن ينعم على مواطنيه أيضاً بالصمم كي تكف ألسنتهم عن صناعة الموت الذي ألقى ظلاله على البلد.

روائي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية