تنكرت أمريكا بشكل تام لمعظم قرارات الأمم المتحدة المؤيدة للحقوق الفلسطينية، ليس في هذه الحرب الدائرة اليوم فقط، التي كشفت لا أخلاقيتهم السياسية والدبلوماسية، بل على الدوام وفرت أمريكا لإسرائيل الحماية، من تنفيذ هذه القرارات أو الالتزام بها. وهي تسارع دائما إلى توفير الغطاء السياسي اللازم لكيانها الوظيفي، وكل ما تفعله خلال كل مواجهة أنها تطالب جميع الأطراف بضبط النفس، في حين ترد على الهجمات على إسرائيل بالشجب والاستنكار. واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو» في 18 أكتوبر 2023 لإفشال مشروع القرار الذي يدعو إلى هدنة إنسانية للسماح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق إلى غزة. وتكرارها تعطيل قرارات الشرعية الدولية هو بمثابة العار الذي ينضاف إلى السجل التاريخي للتواطؤ الأمريكي الصهيوني على شعوب المنطقة، خاصة فلسطين.
نوازع الإبادة في العقل والممارسة الصهيونيين واضحة للعالم، ثمة تكتيك يعتمده الإسرائيليون منذ الخمسينيّات هو «الإصابة بالجنون»، إذ تحسب إسرائيل أنّ من المفيد لها على الدوام أن تظهر بمظهر مَن جُنّ جنونه، وهذه الإصابة بالجنون باتت أسلوبا متّبعا يتجلّى اليوم لإنزال أشدّ الألم بالمدنيين، على أساس أنّ لحماس مظهرين: الجناح العسكري المقاوم والجناح الاجتماعي. في هذا السياق يصف تشومسكي إسرائيل بأنّها أكثر الآلات الحربيّة تقدّما تكنولوجيا، والأكثر تقهقرا أخلاقيا في العالم، مستنكرا في الوقت عينه عدم قيام العرب بأي شيء في مواجهة قيام الإسرائيليين بذبح الأطفال الفلسطينيين، تماما مثلما غضّ الأوروبيون الطرف عندما ارتكب النازيون المحرقة.
الكيان الصهيونيّ يمارس أفعاله بوحشيّة قصوى، بفضل الدعم الأمريكي القوي ومشاركته في الحرب على شعب يُقصف بأكثر إنتاجات التكنولوجيا العسكرية الأمريكية تطوّرا
الدعم الأمريكي تحول تاريخيا من احتضان واحتواء للدولة الناشئة، إلى دعم مادي وعسكري التزمته الولايات المتحدة، والمساعدات الأمريكية لتل أبيب تأتي دائما لتثبيت أقدام إسرائيل في المنطقة. وبطبيعة الحال، هذه الأسلحة والمساعدات التي تقدمها لإسرائيل تلعب دورا كبيرا في القتل والتدمير الذي يشهده قطاع غزة، منذ الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى، التي أطلقتها فصائل المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر الماضي. الكيان الصهيونيّ يتمكن من ممارسة أفعاله بوحشيّة قصوى، بفضل الدعم الأمريكي القوي ومشاركته في الحرب على شعب يُقصف بأكثر إنتاجات التكنولوجيا العسكرية الأمريكية تطوّرا. وهذه التكنولوجيا تُستخدم على نحو ينتهك القانون الدوليّ، بل والقانون الأمريكي. تزويد إدارة بايدن لإسرائيل بالمعدات العسكرية متسق مع تاريخ طويل من المساعدات الأمريكية لها، بدأ في عام 1948 وتضمن منحها نحو 158.6 مليار دولار، أغلبها لضمان تفوُّقها العسكري النوعي، واستدامة أمنها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط. ولكن المؤكد في سياق الحرب الدائرة ضد الفلسطينيين، أنّ الولايات المتحدة والغرب خسروا دورهم كوسيط في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وبعد أن كانت واشنطن راعية لاتفاق السلام في الشرق الأوسط، أعطت ظهرها للقضية الفلسطينية، والآن تشترك مع إسرائيل من داخل غرفة عمليات أركان الدفاع الإسرائيلية، كذلك ألمانيا كانت وسيطا ما بين حزب الله وإسرائيل، اليوم خسرت ألمانيا هذا الدور بوضع حزب الله وحماس على قائمة الإرهاب. على امتداد هذه الحرب المتواصلة، قدمت العديد من الدول الغربية دعما لإسرائيل منذ تصعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تراوح هذا الدعم بين دعم دبلوماسي وعسكري، كتزويدها بمعدات وذخائر عسكرية، ونشر سفن حربية، وتقديم معلومات استخباراتية. تعمل الولايات المتحدة بشكل حثيث على إقناع شركات الدفاع الأمريكية بتسريع تسليم طلبات الأسلحة الخاصة بإسرائيل، وعلى رأسها الحصول على ذخائر لنظام الدفاع الجوي الإسرائيلي القبة الحديدية. هذا طبيعي، إذ تتعدد مصالح واشنطن الاستراتيجية مع تل أبيب، بدءا بتبادل المعلومات الاستخباراتية والتعاون في مكافحة الإرهاب، إلى الجهود المشتركة في الدفاع الصاروخي والطائرات المسيرة.
أصبح الجيش الأمريكي يعتمد بشكل متزايد على الصناعات الدفاعية الإسرائيلية، بما فيها أنظمة الحرب السيبرانية، وتكنولوجيات التجسس. ويشير المركز الأوروبي لدراسة مكافحة الإرهاب والاستخبارات إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية عرضت على إسرائيل في العاشر من أكتوبر 2023 التخطيط للقيام بعمليات خاصة، وكذلك الدعم الاستخباراتي كجزء من الجهود المبذولة لإنقاذ الرهائن الذين تحتجزهم حركة حماس. في حين لا تزال دول الاتحاد الأوروبي غير قادرة على الخروج بموقف موحد، أو اتخاذ استراتيجية واضحة للتعامل مع تصعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، رغم حرص عدد من الدول الأوروبية على إظهار دعم سياسي وعسكري واستخباراتي مطلق لإسرائيل. ظهر ذلك في تباين وجهات النظر بين دول دعمت إسرائيل، كما هو الحال بالنسبة لألمانيا، وأخرى توجّه انتقادات، كما هو الأمر بالنسبة لإسبانيا. وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي نفسه، في سياق حرب الابادة والتهجير التي تحصل ضد المدنيين في غزة، يذكرنا تشومسكي بالعقيدة الصهيونية التي تقوم في جانب كبير منها على أسس دينية متطرفة، حيث: مُنح الجنود المقاتلون في شمال غزة زيارة «مُلهمة» في سنوات ماضية قام بها حاخامان رئيسان شرحا لهم أن لا وجود لأبرياء في غزة، وبالتالي يُعدّ كلّ من فيها هدفا شرعيا. واستشهدا بمقطع مشهور من المزامير يدعو الله إلى الإمساك بأولاد مضطهدي إسرائيل وضربهم بالصخور. لم يأتِ الحاخامان بكشف جديد، فقبل ذلك كتب حاخام اليهود الشرقيين الأكبر السابق إلى رئيس الوزراء الأسبق أولمرت يبلغه أنّ جميع مدنيّي غزة مذنبون جماعيا بالهجمات بالصواريخ، ولا يوجد بالتالي أيّ حظر أخلاقيّ على الإطلاق ضدّ قتل المدنيين من دون تمييز، من خلال هجوم كبير محتمل على غزة يهدف إلى وقف عمليات إطلاق الصواريخ. وتوسّع ابنه، وهو كبير حاخامات صفد، بالقول: إذا قتلنا مئة منهم ولم يتوقفوا علينا أن نقتل ألفا، وإذا لم يتوقفوا بعد الألف نقتل عشرة آلاف. وإذا لم يتوقفوا، مع ذلك، علينا أن نقتل مئة ألف، بل وحتى مليونا، مهما استلزم الأمر لجعلهم يتوقفون». يبدو أنّ ذلك ما تُرجم فعلا ضد المدنيين الذين يتم قتلهم إلى اليوم بالآلاف أمام أنظار العالم.
تعد الأصوات الانتخابية، والشراكات الاقتصادية، كذلك اتساع النفوذ الدولي للوبي اليهودي بسبب نفوذه السياسي والاقتصادي والإعلامي، وتنامي تأثيره على صناعة القرار، أحد الأسباب الرئيسية التي تقف وراء الدعم السياسي والعسكري الغربي لإسرائيل. وكما يؤكد كثير من المراقبين فإنّ تصعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يهدد فقط الأمن الإقليمي، بل قد يؤثر في توازن القوى العالمي أيضا، ومن المحتمل أن يؤدي إلى استنزاف الموارد الأمريكية والأوروبية، وفي الوقت ذاته يخفف الضغط على روسيا في حرب أوكرانيا، ويقدم فرصا جديدة للصين لتوسيع نفوذها في المنطقة. ويبقى تعبير جورج كعدي في محله تماما عندما يعتبر قتل المدنيين وإبادتهم بالآلاف وعشرات الآلاف «دوغما صهيونية» مدعّمة بالفتاوى الحاخامية، وبالنزعات الجنونية، إلى حدّ زعم الجنون والتظاهر به حين يقتضي الأمر ذلك، تماما مثلما يفعل اليوم مجلس حرب الكيان المستعمر المحتلّ الذي لا يبرّر جرائمه ومحارقه في غزة فحسب، بل يجاهر بجنونه باسم مصلحة الكيان الصهيونيّ «المهدّد وجوديا».
كاتب تونسي