المسلسل الأمريكي «القانون والنظام»: دراسة في سطوة الواقع الزائف

ماذا يجمع الرئيس الأمريكي جو بايدن ومرشح الرئاسة رودي جولياني والممثلين سامويل ل. جاكسن وفيليب سيمور هوفمان وأنجيلا لانزبري وبرادلي كوبر وروبن وليامز وأليك بولدين وآخرين من أشهر نجوم السينما الأمريكية؟ لقد ظهر كل منهم في المسلسل التلفزيوني «القانون والنظام» Law & Order الذي يعتبر أشهر مسلسل في تاريخ التلفزيون الأمريكي على الإطلاق، وتحول ليس إلى ظاهرة إعلامية حسب، بل إلى ظاهرة تستحق الدراسة من قبل المختصين بالإعلام والدعاية السياسية.
كان التلفزيون الأمريكي مليئا بالمسلسلات التي انقسمت إلى نوعين رئيسيين، حيث ركز الأول على جهود الشرطة للقبض على المجرمين، مثل «شبكة» و»كوجاك» و»أحزان شارع هيل» بينما ركز الثاني على محاكمة المجرمين، مثل «ماتلوك» و»بيري ميسن» وكان طول الحلقة الواحدة حوالي ساعة. وهنا ترد الذهن فكرة دمج النوعين، وهذا ما قام به المنتج دك وولف، عندما أنتج مسلسلا جديدا تتكون الحلقة الواحدة منه من نصف ساعة حول كيفية قيام الشرطة بالقبض على المجرم (أو مجرمين) ثم نصف ساعة من دراما محاكمة ذلك المجرم. وعلى الرغم من تعثر المسلسل في سنواته الثلاث الأولى، وبعد وضع بعض التحسينات في اختيار الممثلين أصبح نجاحه مذهلا. ومما زاد من درجة التشويق كشف القائمين على المسلسل أون الكثير من القصص مقتبسة من جرائم حقيقية شغلت الرأي العام الأمريكي، إذ أصبح هذا دعاية إضافية للمسلسل. وقام المنتج بالاستعانة بمحامين ومدعين عامين سابقين لكتابة قصص الحلقات لكي تبدو التفاصيل القانونية حقيقية. وسرعان ما أصبح الممثلين الأساسيين في المسلسل شخصيات شهيرة مثل سام ووترستن في دور المدعي العام «جاك مكوي» وجيري أورباخ في دور ضابط الشرطة «ليني بريسكو، وقد أصبح هذا الممثل كذلك أحد رموز مدينة نيويورك. وقد بلغت شهرة هذا المسلسل إلى درجة أن اثنين من الممثلين هما فريد ثومبسن، الذي كان قبل ذلك محاميا ومحققا في قضية «ووترغيت» الشهيرة وكذلك عضوا في مجلس الشيوخ، وسام ووترستن، رشحا نفسيهما في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، دون نجاح.

التأثير في المشاهد

بلغ المظهر الواقعي للمسلسل حدا أنه أصبح مصدرا مهما للمشاهدين بالنسبة للمعلومات القانونية والنظام القضائي بشكل عام، فالتمثيل الرائع والإخراج الدقيق والقصص المثيرة لهذا المسلسل تجعل تأثيره في المشاهد مشابها للتنويم المغناطيسي، إذ أن المشاهد لا يصدق ما يعرضه المسلسل حسب، بل إنه يستسيغه ويؤيده، على الرغم من معرفته التامة أن كل ما يشاهده ما هو إلا خيال، وبالتالي فإن ما يعرض في المسلسل من تفاصيل ومبادئ تتحول إلى واقع في ذهن المشاهد بشكل غير إرادي. ولم يقتصر هذا على المشاهد العادي، بل شمل كذلك المعلقين التلفزيونيين، وحتى بعض السياسيين الذين اعترفوا دون خجل على شاشات التلفزيون، بأنهم تعلموا الكثير من المسلسل. ومن المضحك في الأمر أن رجال الشرطة لم يكونوا استثناء، إذ اعترف بعضهم بأنهم تعلموا أشياء عن المهنة من المسلسل. ولِمَ لا، فالشرطة في المسلسل تنجح دائما في القبض على المجرم، وينجح الادعاء العام كذلك في إدانته وزجه في السجن، ما يعطي المسلسل انطباعا بأن الأساليب المتبعة من قبل شخصياته حقيقية وناجحة. وقد كشف الإعلام عن كل هذا، ما شكل دعاية هائلة للمسلسل.
لم يكن ذلك النجاح كافيا بالنسبة لمنتج هذا المسلسل، حيث أنه سرعان ما أنتج مسلسلات فرعية للمسلسل، وكأنها فروع لشركة مطاعم شهيرة، ما شكّل ظاهرة جديدة في عالم التلفزيون، وسرعان ما قلدته مسلسلات تلفزيونية أخرى. وبلغ عدد حلقات المسلسل مع فروعه حوالي ألف ومئتي حلقة، ما حقق رقما قياسيا بالنسبة للمسلسلات البوليسية في تاريخ التلفزيون الأمريكي. ولم يكن ذلك الرقم الوحيد، فإحدى المسلسلات الفرعية ما تزال تنتج وتعتبر الأطول في تاريخ المسلسلات البوليسية، كما أعيد إنتاج المسلسل الأصلي. وقام المنتج كذلك بإصدار أربعة ألعاب فيديو مقتبسة من المسلسل بنجاح كبير.

يعترف القائمون على المسلسل، وحتى بعض ممثليه، مثل الممثلة دايانا نيل، بأن المسلسل دعاية لشرطة نيويورك ومحاكمها، فالمتهم الذي يلقى القبض عليه هو من قام بالجريمة وتتم إدانته، فلا خطأ في الأمر. أما في الحالات النادرة جدا عندما تقبض الشرطة على الشخص الخطأ، فهذا ذنب المتهم وليس تقصيرا من قبل الشرطة. وبالتالي لا يمكن أن يكون المتهم سوى الشخص الذي أرتكب الجريمة فعلا، ويجب إخضاعه للعقاب فورا، ولذلك، فالعنف والخداع والتهديد الذي يستعمل ضد المتهم من قبل رجال الشرطة، والضغط الهائل الذي يتعرض له من قبل الادعاء العام مقبول تماما بالنسبة للمشاهد. وربما تسبب هذه الثقة المفرطة مشكلة في المحاكم الحقيقية، فإذا كان النظام القضائي معتمدا على المحلفين، الذين يتكونون من مواطنين عاديين يؤمنون تماما بكفاءة الشرطة والادعاء، فإن المحلفين في هذه الحالة قد أدانوا المتهم مسبقا. ويناقض هذا تماما أحد أهم مفاهيم القضاء في جميع أرجاء العالم لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وليس المتهم الشخص المستهدف الوحيد في هذا المسلسل، بل احيانا الشهود كذلك، إذ يهدد المدعي العام جاك مكوي (الممثل سام ووترستن) بحرمان أم من أطفالها، إذا لم تتقدم بالشهادة لصالح الادعاء. ولا نعرف من هو الأسوأ هنا، المجرم أم المدعي العام. وهناك أيضا الاحتقار الواضح في المسلسل لمحامي الدفاع الذي غالبا ما يظهر وكأنه شيطان في خدمة المجرمين، وكأن القائمين على المسلسل يحاولون إقناع المشاهد بضرورة منع المتهم من الاستعانة بمحامٍ للدفاع عن حقوقه.

تبدأ عوامل التشويق منذ اللحظة الأولى من الحلقة بشرح سريع لدور الشرطة والادعاء العام في محاربة الجريمة. والشرح صوتي وبصوت رجالي في منتهى الجدية، يتبعه وقوع الجريمة التي هي تقريبا دائما جريمة قتل.

طريقة إخراج المسلسل

تبدأ عوامل التشويق منذ اللحظة الأولى من الحلقة بشرح سريع لدور الشرطة والادعاء العام في محاربة الجريمة. والشرح صوتي وبصوت رجالي في منتهى الجدية، يتبعه وقوع الجريمة التي هي تقريبا دائما جريمة قتل. وبعد ذلك يبدأ عرض أسماء الممثلين والمشاركين في الفيلم. ويبدأ كل مشهد بصوت طرقتين مشابه لصوت إغلاق زنزانة ما يزيد من توتر المشاهد بشكل غير إرادي. ويمتاز التمثيل طوال الحلقة الواحدة بجدية الشخصيات حيث نادرا ما يبتسم أيا منهم وأن صدرت ملاحظة ساخرة، التي تكون عادة من أحد رجال الشرطة، لاسيما ضابط الشرطة «لني بريسكو» (الممثل جيري أورباخ) فهي عدوانية وليست لإضفاء بعض المرح على الحلقة. واعتمد التصوير على التركيز على الممثلين عن قرب، لإظهار مشاعر القلق، أو الغضب على وجوههم، وسرعة حركتهم طوال الحلقة مع التخفيف الواضح للموسيقى التصويرية في كل مشهد، حيث جميع الأصوات صادرة من الممثلين ونشاطهم الجسدي. ولا توجد لحظة واحدة من الصمت، أو خطاب طويل في جميع الحلقات، كي لا تهدأ أعصاب المشاهد، فكل الجمل قصيرة وتقال بطريقة متوترة، كما تحتوي على تعابير يستعملها رجال الشرطة والادعاء العام الحقيقيين، خاصة عند شرح القوانين وإجراءات جهازي الشرطة والادعاء العام.
لا يتعرض أي من الشخصيات الرئيسية للقتل على يد المجرمين، فهم دائما المنتصرون في هذه الحرب الشرسة ضد عالم الإجرام. ويتكون جهاز الشرطة دائما من شخصين يكون أحدهما الضابط ذا الخبرة الطويلة، بينما يكون الثاني شابا يميل إلى العنف بعض الشيء. ولا يعرف المشاهد عن الحياة الشخصية للشخصيات إلا القليل لزيادة التركيز على مسار الأحداث.

تناقض المسلسل مع الواقع

على الرغم من الانطباع الطبيعي للمسلسل، فإنه بعيد جدا عن الواقع. وإذ يصدق المشاهد أن نسبة القبض على المجرمين تكاد أن تكون مئة في المئة، كما يظهر في هذا المسلسل، فهناك مفاجأة في انتظاره لأنها حاليا في الحقيقة، وحسب الإحصاءات الرسمية، حوالي خمسين في المئة بعد أن كانت أكثر من تسعين في المئة في ستينيات القرن الماضي، على الرغم من التطور الهائل الذي طرأ على أساليب التحقيق من كاميرا المراقبة المنتشرة في كل مكان واستعمال أجهزة الكومبيوتر واستعمال الحمض النووي DNA. وما لا يدركه المشاهد كذلك أن محاكمة المتهم تحدث في ثلاثة من المئة من القضايا فقط، إذ يقوم المدعي العام باقتراح حكم على المتهم ويضعه تحت ضغط هائل لقبول هذا الحكم، وبذلك يفوز المدعي العام دون الدخول في محاكمة. وحتى إذا حصل المتهم على المحاكمة التي تظهر دائما في السينما والمسلسلات البوليسية، فإنها في الحقيقة عادة ما تكون سهلة بالنسبة للمدعي العام، لسبب بسيط، ألا وهو ان تقديم القضية إلى المحكمة لا يتم الا بقرار من المدعي العام الذي لا يقوم بذلك إلا إذا كان مقتنعا أن لديه من القرائن ما يكفي لإدانة المتهم. وإذا تمعنا في الأدلة التي تظهر في هذا المسلسل، فإننا سنجد أن موقف المدعي العام في الواقع ضعيف، وأن مدعيا عاما في المحاكمات الواقعية، سيحاول العثور على أدلة أكثر كي يفوز في المحاكمة.
عندما يقوم ضباط الشرطة الحقيقيون بمعاينة مسرح جريمة، فإنهم يكتبون جميع ملاحظاتهم على دفاتر صغيرة، حيث يعتمدون عليها في كتابة تقاريرهم وكذلك في شهاداتهم في المحكمة. ولا يظهر هذا في المسلسل، إذ يقضي ضباط الشرطة الوقت في مناقشة مسرح الجريمة. ويبدو رجال الشرطة في المسلسل وكأنهم يتعاملون مع قضية واحدة فقط كل مرة، بينما هذا مستحيل في الواقع حيث يتعاملون مع عدة قضايا في الوقت نفسه.

الممثلين برادلي كوبر (يمين) وأنجيلا لانزبري وألفريد مولينا في إحدى حلقات المسلسل

من أغرب ما يظهر في المسلسل أن الشرطة وموظفي الادعاء العام يتصرفون وكأن لديهم هوس مرضي لكشف الحقيقة، لاسيما المدعي العام «جاك مكوي» الذي نراه على وشك الإصابة بانهيار عصبي لتحقيق العدالة، بينما رجال الشرطة والأدعاء العام في الحقيقة ليسوا سوى أشخاص يحاولون جهدهم الحفاظ على وظائفهم، ولهم قابليات شخصية ومهنية محدودة. ويكاد المسلسل وبشكل واضح لا يعرض مخالفات رجال الشرطة للقانون وتعاونهم أحيانا مع العصابات الإجرامية في مختلف المجالات وحتى القيام بعمل إجرامي بأنفسهم.
نرى قاعة المحكمة في المسلسل مكتظة بالمشاهدين، بينما في قاعة المحكمة الحقيقية لا يحضرها سوى عدد قليل جدا من الناس، إلا إذا كانت القضية شهيرة مثل محاكمة الممثل الرياضي أوجَي سمبسن،والسبب أن إجراءات المحاكمة الحقيقية مملة جدا وبطيئة، وليست فيلما سينمائيا.
يعطي المسلسل الانطباع أن التحقيق الذي يؤدي إلى اكتشاف المجرم بالغ السرعة، بينما قد يستغرق ذلك في الحقيقة أشهرا وحتى سنوات. أما المحاكمة التي تبدو في المسلسل وكأنها تتم بعد إلقاء القبض على المتهم مباشرة وتنتهي خلال يوم واحد أو يومين، فغير صحيح، إذ غالبا ما تبدأ المحاكمة بعد أكثر من سنة أو سنتين بعد اعتقال المتهم، وتستغرق عدة أسابيع أو أشهر.

الخلفية التاريخية

ليست فكرة المسلسل أصلية جدا، إذ أقتبست فكرة مقدمة كل حلقة، والانطباع الواقعي للمسلسل من مسلسل شهير عرض عام 1951 باسم «شبكة» Dragnet الذي يسمع المشاهدون في بداية كل حلقة منه، أن القصة مأخوذة من جريمة واقعية. ونال مسلسل «شبكة» نجاحا واسعا دون أن يلاحظ أحد أنه في الواقع دعاية مقصودة لشرطة مدينة نيويورك، باعتراف منتج المسلسل الذي ذكر أن قصص الحلقات كانت تعرض على إدارة شرطة المدينة ولا تتحول إلى حلقة دون الحصول على موافقة تلك الإدارة، التي كانت تسمح للشركة المنتجة بالتصوير في شوارع المدينة، كما تشاء وتزودها بسيارات الشرطة اللازمة للتصوير، وحتى رجال الشرطة المشتركين ككومبارس في الحلقات. أما فكرة تخصيص نصف الحلقة لعرض جهود الشرطة للعثور على المجرمين، والنصف الآخر لعرض المحاكمة، فليست أصلية أيضا، حيث إنها مأخوذة من مسلسل قديم عرض عام 1963 باسم «اعتقال ومحاكمة» Arrest and Trial وكان من تمثيل بن غازارا وتشك كونورز.
على الرغم من اعتراف القائمين على المسلسل باعتمادهم على قضايا حقيقية في الكثير من الأحيان، فإن القضايا الحقيقية أكثر إثارة من نسختها السينمائية إذا تجاهلنا الخدع السينمائية المستعملة لإثارة المشاهد، ولذلك، فإن الواقع الذي نعيشه أكثر إثارة من خيال الكتاب في الأفلام والمسلسلات الشهيرة.
تكشف الشعبية الهائلة لهذا المسلسل، وكذلك شعبية المسلسلات المشابهة له، مدى اهتمام المواطن الأمريكي بعالم الجريمة، ومدى أهمية الدور الذي تلعبه الجريمة في حياته، لاسيما في ظل المعدلات المتزايدة للجريمة في مدن الولايات المتحدة الأمريكية، التي أخذت تثير قلقا واضحا في الأوساط الاجتماعية والإعلامية. وتقدر الخسائر الاقتصادية الناجمة عن النشاطات الإجرامية بما يعادل الاثنين في المئة من الإنتاج القومي الأمريكي.

باحث ومؤرخ من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    ادا سمح لنا المنبر وكدالك الكاتب المحترم نضع حرفا واحد ا أو بعض الحروف تحت ظل هد ا الموضوع الفني السينمائي المتواضع شكرا بين قوسين نقول دائما وسنظل ان المسلسل باب من ابواب السينما وهو أكثر صعوبة من الصورة السينمائية المحدودة في ساعة أو ساعتيين وتنتهي القضية او نقول الحدث أما المسلسل فلا قد يطول حلقات حلقة لاتشبه حلقة او تكون حلقة واحدة لقضية خيوطها طويلة وهده تجر المشاهد العاشق فايتتبعها حتى التهاية وليسمح لنا القارئ المحترم فاالكلام لازال طويلا وأضرب مثلا بمسلسل أمريكي بوليسي لازلنا نراه عبر شاشة لنترنيث ألا وهو كولمبوا يتتبع القضية حرفا حرفا بهدوء حتى يصل لنتيجة ويظهر صاحبها .

  2. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    أقول ادا سمح لنا المنبر شكرا يتتبع القضية حتى يظهر صاحبها وتنتهي الحلقة الى حلقة أخرى تختلف

إشترك في قائمتنا البريدية