في الحديث عن الأفلام والمسلسلات، هنالك عنصر أساسي في تكوين الشخصيات والحكاية لا بد أن تسبق عناصر أساسية أخرى، هي مدى إمكانية تماهي المُشاهد مع الشخصية الرئيسية، وخاصة في الأنواع، حيث هنالك تصادم واضح ومباشر قد تُبنى عليه الحكاية، بين هذه الشخصية الرئيسية وآخرين. يتجلى الصدام في أشكال عدّة، من بينها المواجهة مع أجهزة الدولة من شرطة وجيش ومخابرات. وهذا هو حال المسلسل الإسباني الذي عُرض موسمه الثالث مؤخراً على شبكة «نتفليكس».
التماهي المقصود يتمثّل في تعاطف المشاهد مع الشخصية التي قد تكون مجرمة أو سارقة… فكلّما تعاطف المشاهد أكثر، زادت جماهيرية العمل، بالتالي نجاحه بشكل من الأشكال، والنجاح يكون مُضاعَفاً إن كانت هذه الشخصية «غير سويّة» أو «شريرة» بحسب «المعايير الأخلاقية» التي وضعتها المجتمعات وأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاكمة، وعلى مر التاريخ. وحديثي هنا، كلّه، عن جماهيريّة العمل – أيّ عمل- وليس فنّيته، فيكون لعنصر التماهي، في حديث كهذا، أهمية أساسية.
هذا التماهي، كما أتى في «لا كاسا دي بابل» (بيت الورق، La casa de papel، 2017 ـ 2019)، كان جديداً نوعاً ما على المُشاهد المتلقي لنوعية أفلام كهذه: سطو على مبنى حكومي حساس، يعتمد على الخطّة والتنظيم والعمل الجماعي. فقدّمت المجموعة نفسها كأخيار لا أشرارا، رغم أنّها تسطو على مركز طباعة الأوراق المالية، وتحتفظ برهائن، وأفرادها فوق ذلك مسلّحون ومقنّعون. لكن الأمر لا ينتهي هنا، بهذه الشكلية، بل يبدأ من هنا. قدّمت المجموعة نفسها، في ما تفعله، كحركة مقاومة تثور بطريقتها على النظام القائم في إسبانيا (والعالم، تحديداً الرأسمالي)، بإيذاء هذا النظام بدون إلحاق أي أذى بالرهائن المدنيين، وبدون الإضرار بالمال العام، فهم لم يسرقوا بل طبعوا نقودهم الخاصة، سطوا على المركز وسيطروا عليه وبدأوا بطباعة أوراق نقدية للخروج بها، هي ليست إذن من المال العام.
التماهي هنا كان سلساً، لكن المُشاهد لا يحتاج إلى ذلك ليختار أن يصفّ إلى جانب بطل الفيلم، أو أبطاله، فهو، المشاهد، واع لفكرة تلقّيه عملاً خيالياً، مؤلَّفاً كي يمتعه، وبالتالي لا موانع أخلاقية سيكولوجية له كي يمارس ما تمنعه الأنظمة في واقعه من ممارسته وهو التعاطف مع مجموعة تسطو على أحد مراكز ثقل عاصمته السياسية والاقتصادية.
مثال واقعي إنّما أصغر بكثير، على ذلك كان تعاطف العديد من الفرنسيين مع تكسير حركة «السترات الصفراء» الفرنسية لواجهات المصارف، فهذا الفعل «التخريبي» في ظاهره، هو تمرّد على أنظمة رأسمالية سائدة تمثّله هذه المصارف، معظم المحتجّين/المشاهدين هم جزء من ضحاياه، بإدراكهم لذلك وعجزهم عن الرد أو بعدم إدراكهم، فقدّم المسلسل لهم حالة هي خيالية أولاً، ولا يحتاج المشاهد تبريرات أخلاقية للتعاطف مع أبطالها ثانياً، لذلك سهُلَ التّماهي، ولأسباب أخرى أساسية، وظهرت أكثر مباشَرةً في المسلسل، كتقديم المجموعة لنفسها «مقاومة» للنظام (للسيستيم)، وأصحاب أهداف أساسية أهمها كسب الجمهور (الشعب) إلى صالحهم، نضيف إلى ذلك حرصهم على عدم أذيّة الرهائن، بل إقامة علاقات معهم، هو ما فاق حرص الشرطة والمخابرات الإسبانية، التي تفاوضت مع المجموعة عبر رئيسها «البروفيسور»، والتي قتلت في المواسم الثلاثة أفراد المجموعة في وقت لم تقتل الأخيرةُ أحداً لتعليمات واضحة من «البروفيسور» بأنهم، كما أنّهم ليسوا سارقين، فهم ليسوا قتلة.
أتى الجزء الثالث بعناصر جديدة تعزّز من مبررات هذا التماهي، وهي إضافة لتكريس المجموعة كأخيار في الجزأين الأول والثاني (2017/2018)، فقد تكرّست الشرطة والمخابرات كأشرار في الثالث، لعمليات تعذيب لأحد أفراد المجموعة وانتهاك حقوق الإنسان.
فما كان المشاهد يتردد في التصريح به أثناء مشاهدة فيلم/مسلسل شخصيته الرئيسية تواجه أحد أجهزة الدولة، تكون عموماً شخصية خارجة عن القانون وتستخدم السلاح، فما كان يتردد به من تماهٍ وتعاطف مع هذه الشخصية، متمنياً، في داخله، إفلاتها وانتصارها على أي ممثّل عن الدّولة، قدّم المسلسل له الشخصيات ذاتها (الخارجة عن القانون) مع طرح تشكّك حول السؤال المُسلَّم به: «هل الممثلون عن الدولة/القانون هم بالضرورة الأخيار؟» ما أراح المشاهد في تماهيه مع الشخصيات، فما كان تماهيه خارجاً عن «الأخلاق العامة»، فارتاح في موقفه، فتعمّم ذلك، وصار جمعيّاً، فنال المسلسل كل تلك الجماهيرية.
المسلسل الذي صار أحد أبرز مسلسلات «نتفليكس» حالياً، نال هذه الشهرة الواسعة لقدرته على «خرق» حالة التماهي والذهاب بها إلى مناطق جديدة لدى مشاهد هذا النوع من المسلسلات والأفلام، فلم يحتَج المشاهد لأن يتعاطف سراً مع المجموعة، بل لديه أسبابه ليكون واحداً من الجماهير المتظاهرة أمام البنك المركزي الإسباني الذي سطت عليه المجموعة في الجزء الثالث من المسلسل، متضامنين معهم يحملون راياتهم وقناع سلفادور دالي، الذي صار رمزاً لمقاومة الأنظمة السائدة لديهم، تماماً كما كان قناع «ڤانديتا» لدى العرب وغيرهم في الانتفاضات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، بما فيها إسبانيا.
إضافة إلى كل ذلك، أتى الجزء الثالث بعناصر جديدة تعزّز من مبررات هذا التماهي، وهي إضافة لتكريس المجموعة كأخيار في الجزأين الأول والثاني (2017/2018)، فقد تكرّست الشرطة والمخابرات كأشرار في الثالث، لعمليات تعذيب لأحد أفراد المجموعة وانتهاك حقوق الإنسان، ولقذارة وانتهازية أجهزة المخابرات، وحرصها على إخفاء معلومات سريّة تتعلّق بانتهاكات دولية خطيرة، حصلت عليها المجموعة التي أظهر هذا الجزء أكثر من حالة تضامن شعبي معها. هنالك وضوح تام إذن في مَن هم الأخيار ومن هم الأشرار، وقطعٌ عن ذلك الرابط الذي كبرَ المشاهد عليه، بين ممثلي الدولة من رجال شرطة وعملاء مخابرات غيرهم، والخير، وهو تراث سينمائي أمريكي مبتذل كانت السينما فيه مساهِمة في حرب باردة أمريكية لا تنتهي.
للمسلسل الذي نال جوائز عدّة وأنتجه وكتبه الإسباني أليكس بينا، بحرفية، إذ تميّز بكتابة محكمة وإخراج لافت، بسردٍ جمع بين الزمن الراهن و»الفلاشباك» بشكل ذكي، للمسلسل إشارات واضحة للحراكات الاجتماعية والسياسية العالمية خلال السنوات الأخيرة، وله إشارات نصّية وشكلية مأخوذة من التراث اليساري العالمي.
كلّ ذلك ساهم في رضى المُشاهد عن ذاته في تعاطفه، في القبول الأخلاقي للتماهي إن افترض إمكانية وواقعية حصوله. فأحدنا، أثناء المشاهدة، يأخذ موقفاً، يصفّ إلى جانب طرف ما، مفترِضاً أنّ ما يشاهده يمكن أن يحصل في واقعه، وبالتالي لا بد من موقف تجاهه، وكل ما في «لا كاسا دي بابل» يحملك إلى جانب «الخارجين عن النّظام»، المقتربين من النّاس.
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا