المشروعات الاستثمارية تدهس تاريخ مصر… وحديقة الأسماك آخر الضحايا

تامر هنداوي
حجم الخط
0

القاهرة – «القدس العربي»: على الرغم من اختيار مصر لاستضافة المؤتمر الدولي المقبل للمناخ المقرر عقده العام المقبل، تواجه حدائق مصر التاريخية أخطارا شتى، في ظل حملة لتحويل المساحات الخضراء في المدن، خاصة في العاصمة القاهرة، إلى مشروعات استثمارية، وقد طالت عمليات التخطيط حدائق تاريخية ومراكز ثقافية.
كل ذلك وسط تصريحات وخطط معلنة تنافي الواقع، ففي الوقت الذي أطلقت فيه مصر مشروع “اتحضر للأخضر”، في إطار الاستراتيجية القومية للتنمية المستدامة “مصر 2030″، وتستهدف تغيير السلوكيات ونشر الوعي البيئي وحث المواطنين على المشاركة في الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية لضمان استدامتها حفاظا على حقوق الأجيال القادمة، تشهد البلاد جدلا واسعا، بسبب خطط تحويل الحدائق لمشاريع استثمارية، كان ’خرها حديقة الأسماك الأثرية.

استجواب في البرلمان

النائبة سميرة الجزار، عضو الهيئة البرلمانية للحزب “المصري الديمقراطي الاجتماعي”، تقدمت بطلب استجواب لكل من مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، وخالد العناني، وزير السياحة والآثار، بشأن حقيقة الأخبار التي تتداول بشطب جبلاية (حديقة) الأسماك في حي الزمالك العريق، التي أنشأها الخديوي إسماعيل عام 1868 من تعداد الآثار، والاكتفاء بتسجيل الجبلاية والأكشاك الثلاثة.
وقالت في الاستجواب: “أثارت تصريحات أسامة طلعت، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية، لتبرير عملية شطب أجزاء من حديقة الأسماك الأثرية من تعداد الآثار، غضب الرأي العام وسكان الزمالك وأساتذة الآثار المصرية بصفة خاصة”.
وتابعت: “أوجه استجوابي لوزير السياحة والآثار، لمعرفة حقيقة ما حدث وما يحدث لتراثنا وتاريخنا وحدائقنا الأثرية في المذكرة الملحقة وطبقا لشروط المادة 217 من اللائحة”.
ووجهت النائبة، في هذا السياق، عدة أسئلة لوزير الآثار تضمنت: “لماذا قامت اللجنة الدائمة في المجلس الأعلى بشطب أجزاء من حديقة الأسماك من تعداد الآثار، بعد أن قامت اللجنة نفسها بتسجيل كامل الحديقة ضمن تعداد الآثار في وقت سابق؟ ما يثير الريبة والشك في اللجنة وقرارها وما يعد مخالفة تستوجب الاستجواب، وهل يعقل أن الحديقة المحيطة بالجبلاية التي أنشئت عام 1868 وتضم أشجارا ونباتات أثرية نادرة تخرج من تعداد الآثار؟”.
كما تساءلت “عما إذا كانت هذه اللجنة هي نفسها التي سمحت وأصدرت تصاريح بهدم آثار لها قيمتها التاريخية وكانت السبب في تدمير مواقع ذات قيمة كبيرة مثل طابية أسوان التي تم هدمها، وقصر أندراوس باشا بالأقصر”.
وطالبت بـ”ذكر حيثيات عملية الشطب، وتحديد الأسباب التي تم على أساسها شطب الأثر، ولماذا معول الهدم سهل وسريع لتراثنا وحدائقنا وتاريخنا وقصورنا، وما الضرورة الملحة التي تستدعي التضحية بجزء من حديقة عريقة بها أشجار نادرة وثروة نباتية وبرك مائية تاريخية لا تقدر بثمن؟”.
وأضافت: “هل يعقل في الوقت نفسه الذي تقوم به القيادة السياسية بإحياء القاهرة الخديوية بمبانيها وتراثها أن تقوم اللجنة الدائمة بالمجلس الأعلى للآثار بإخراج حديقة أثرية تاريخية بناها الخديوي إسماعيل من تعداد الآثار وتعريضها للخطر والهدم بهدف التطوير أو عمل كراج؟”.
وطالبت بـ”مراجعة كل أعمال اللجنة الدائمة للآثار وقراراتها ومحاسبتها عن تضارب عملها، وكيف أنها أدرجت حديقة الأسماك في تعداد الآثار، ثم غيرت هذا القرار بعد فترة بإخراج معظم الحديقة من تعداد الآثار”.
وأوضحت أن هدف الاستجواب هو “إلغاء قرار اللجنة وإعادة جبلاية (حديقة) الأسماك لتعداد الآثار بأكملها وبحديقتها الأثرية التاريخية كما كانت وعدم إخراج أي أثر من تعداد الآثار إلا بعد تقديم حيثيات عملية الشطب، وتحديد الأسباب التي تم على أساسها شطب الأثر”.
وحديقة الأسماك يرجع تاريخ إنشاءها لعام 1867، حين طلب الخديوي اسماعيل من مدير متنزهات باريس، إحضار أحد الخبراء لتصميم الحديقة. وتبلغ مساحة الحديقة مضافاً إليها مجموعة الحدائق النباتية المجاورة لها نحو تسعة أفدنة ونصف فدان، وصممت على هيئة جبلاية وتم استخدام مادة الطين الأسوانلي والرمل الأحمر والمواد الداعمة لتصميمها، وصممت على هيئة خياشيم السمك.
مصطفى وزيري، أمين المجلس الأعلى للآثار، قال إن المجلس “سجل حديقة الأسماك في عداد الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية منذ عام 2010″، موضحا أنها” تعود إلى فترة الخديوي إسماعيل ولم تشطب”. وأضاف في تصريحات متلفزة أن “وزارة السياحة والآثار مهتمة بتطوير القصور التراثية والأثرية كقصر البارون إمبان وعائشة فهمي”، لافتا إلى أنها “ستنتهي من تطوير قصر محمد علي في شبرا خلال بضعة أسابيع تمهيدا للافتتاح”.
وأوضح أن “اللبس الذي شهده ملف حديقة الأسماك متعلق بتخصيص جزء من حديقة عشوائية خارجية وإسناده لإحدى الشركات لتقديم الخدمات”، مشيرا إلى أن “الوزارة تستعين بالشركات المتخصصة في تشغيل وتقديم الخدمات داخل المناطق الأثرية المختلفة كالهرم وقصر البارون إمبان وغيرها”.
ولفت إلى أن “الجزء المخصص لإحدى شركات تقديم الخدمات سيستخدم لإقامة إنشاءات خفيفة مثل كراج متعدد الطوابق للسيارات، على غرار ما هو منفذ في المناطق الأثرية الأخرى”، منوها إلى أن “البعض اعتقد أن المساحة ستُفصل من الحديقة”.
كذلك قالت وزارة السياحة والآثار، ردا على ما تم تداوله بشأن شطب حديقة الأسماك في الزمالك من عداد الآثار، إن “المجلس الأعلى للآثار لم ولن يشطب أي أثر من عداد الآثار المصرية القديمة أو الإسلامية أو القبطية أو اليهودية، وإن مهمة المجلس، وفقا لقانون حماية الآثار وتعديلاته، هي الحماية والحفاظ على الآثار المصرية الفريدة التي هي ملك للبشرية”.
لكن محمد عبد الحميد، مدير عام حديقة الأسماك، انتقد تصريحات وزيري بشأن تخصيص مساحة تقدر بنحو نصف فدان من حديقة الأسماك لإنشاء كراج للسيارات لخدمة الزائرين.
وقال في تصريحات صحافية: “ما صرح به الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، رغم احترامي لشخصه، وهو مسؤول كبير له كامل الاحترام والتقدير، إلا أن الكلام الذي صدر منه غير مسؤول”.
وأضاف: “كيف يقول وزيري إن الحديقة بلا أسماك”، متسائلًا: “من أين عرف هل توجد أسماك بالحديقة أم لا؟”.
وأكمل “بالفعل، الحديقة مليئة بالأسماك، وبها معامل وصوب وأسماك محنطة وغيرها من الأشياء التاريخية، أما الحديث حول شطب الحديقة من تعداد الآثار أو شطب جزء منها أو غير ذلك، فهو أمر يعود إلى وزارة السياحة والآثار، واللجنة الدائمة للآثار المصرية والإسلامية والقبطية، ولا علاقة لنا به”.
وتابع: “الحديقة تحتاج إلى تطوير، ولكننا نبذل كل جهودنا في الحفاظ عليها لأنها تحمل تاريخا طويلا لنا، وتعد جزءا من الوجدان الجمعي المصري وتم فيها تصوير الكثير من الأعمال الفنية، ومن هنا تكتسب قيمة إضافية تدفعنا إلى ضرورة أن نبذل مزيدا من الجهد في الحفاظ عليها”.
وحول اقتطاع جزء من الحديقة لإقامة موقف للسيارات قال: “هذه الفكرة أول مرة نسمع عنها مع العلم أن الحديقة أصولها تتبع وزارة الزراعة ونحن الجهة المسؤولة عنها”، مشيرا إلى أن “الفترة الماضية شهدت تقدم عدد كبير من المستثمرين بغرض تطوير البنية التحتية للحديقة من خلال إنشاء مطاعم وكافتيريات ذات مستوى عال لخدمة الزوار، لكن فكرة إنشاء كراج فهذا جديد ولم يتقدم إلينا مستثمر بهذا المقترح”.
وتابع: “أحد المستثمرين عرض علينا مشروع استغلال مرآب التحرير لركن سيارات الراغبين في زيارة الحديقة على أن يتم النقل بعد ذلك من خلال مراكب تابعة للمستثمر عبر النيل إلى المرسى المملوك لحديقة الأسماك ليستمتعوا بزيارة الحديقة مع توفير خدمات المطاعم لهم”.
وحول تصريحات الأمين العام للآثار بوجود مكان خال من الأشجار في الحديقة، أكد أن “الأشجار والنخيل في كل مكان بالحديقة، ولا يوجد نصف فدان خال، ويمكن للزائر العادي أن يرى ذلك بنفسه”.
لم تكن حديقة الأسماك وحدها في مواجهة خطط المشروعات الاستثمارية، فقد دشن أهالي حي مصر الجديدة في القاهرة، العديد من الوسوم الإلكترونية، للاستغاثة من مخطط الاستيلاء على أجزاء كبيرة من “حديقة الميريلاند” التاريخية، والبدء في تجريفها، تمهيداً لتحويلها إلى عمارات سكنية ومطاعم وأنشطة تجارية مؤجرة لصالح الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، على غرار ما حدث مع “حديقة الطفل” في حي مدينة نصر.
وحديقة الميريلاند تقع على مساحة 50 فداناً، وهي المتنفس الأخضر الوحيد حالياً لأهالي مصر الجديدة، إثر القضاء على جميع المساحات الخضراء في الحي لإنشاء العديد من الطرق والجسور الجديدة.
ويعود تاريخ إنشاء الحديقة إلى عام 1949 في عهد الملك فاروق تحت اسم نادي سباق الخيل، وتضم الكثير من الأشجار المعمرة، فضلاً عن بحيرة مخصصة للمراكب الصغيرة، ومشتل لتشجير الحديقة، وبيع النباتات للجمهور، إلى جانب برجولات ومشايات وشلالات.
ونشرت “مبادرة تراث مصر الجديدة” بياناً عبر صفحتها على موقع “فيسبوك”، تحت عنوان “ارفعوا أيديكم عن سكان وأشجار وتراث مصر الجديدة”، قالت فيه: “الواقع كما هو اليوم: استقطاع جزء من حديقة الميريلاند، وقطع الأشجار، وهدم منطقة الباتيناج التراثية من أجل إقامة نصب تذكاري، بعد استلام الموقع من جانب الهيئة الهندسية للقوات المسلحة”. وأشار البيان إلى “توسعة شارع نهرو إلى 5 حارات في كل اتجاه، ونزع كل الأشجار فيه، وإنشاء شارع جديد خلف حديقة الميريلاند، وصولاً إلى شارع جسر السويس، بالإضافة إلى هدم مشتل مصر الجديدة كلياً، وتحويل حديقة غرناطة إلى سنتر تجاري، علاوة على بناء هيئة النظافة كافتيريا بالطوب الأحمر داخل حديقة الفاسقية في منطقة روكسي”.

قصر ثقافة المنصورة

وشهدت الشهور الماضية غضبا في مصر بعد أن طالت خطط المشروعات الاستثمارية أماكن ثقافية وتاريخية عديدة، منها قصر ثقافة المنصورة الذي يعود تاريخ إنشائه إلى ستينيات القرن الماضي واثنتان من الحدائق العامة في دلتا مصر.
ودفعت خطط هدم قصر الثقافة محامين لإقامة دعوى قضائية أمام مجلس الدولة لوقف هدم القصر ثقافة المنصورة واثنتين من الحدائق العامة، لبناء أبراج وفندق ضمن مشروع “تحيا مصر المنصورة” والمعروض للاستثمار من وزارة النقل ومحافظة الدقهلية.
وطالبوا بإلغاء القرار السلبي لمحافظ الدقهلية والخاص بهدم قصر ثقافة المنصورة وحديقة “صباح الخير يا مصر” وحديقة عروس النيل، والتعدي بالبناء على أراضيهم، وما يترتب عليه من آثار.
وقال المحامون في عريضة الدعوى: “تمتلك محافظة الدقهلية قصر ثقافة المنصورة وهو مسرح أم كلثوم سابقا، وصممه المهندس المعماري العبقري سيد كريم، وقد تم تصميمه في ستينيات القرن الماضي، وتوقف بناؤه أثناء حرب 1967، ثم تم استكماله وافتتاحه في السبعينيات ويعد من أكبر قصور الثقافة على مستوى الجمهورية، وتمت إضافته لسجل المباني ذات الطراز المعماري المتميز في عام 2016، وهو القرار الذي يحظر الهدم أو التعديل تماما داخل المبنى وخارجه وكذلك ما يلحق به من حدائق”.

قصر أندراوس

وقبل شهرين أثار هدم قصر توفيق باشا أندراوس الشهير، الموجود داخل حرم معبد الأقصر، والمطل على كورنيش النيل في مدينة الأقصر التاريخية جنوب مصر، حالة من الجدل حول الأسباب التي دفعت أجهزة الدولة لنزع ملكية القصر، وتنفيذ قرار إزالته.
في عام 1897 أنشأ توفيق باشا أندراوس القصر، وهو واحد من مجموعة القصور ذات القيمة التاريخية النادرة. وكان يضم مجموعة من القطع الأثرية التي نقلت إلى المخازن الأثرية في الأقصر قبل حوالى 20 عاما
واستضاف القصر رموزا تاريخية، إذ كان توفيق عضو مجلس النواب لـ 3 دورات متتالية دون منافس منذ عام 1923 إلى 1935 بعد مبايعته لسعد زغلول باسم المسيحيين. وكان يتولى إدارة مؤتمرات حزب الوفد ويتبرع بالأراضي والأموال لصالح خزينة حزب الوفد.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية