استيقظ اليمن عام 2011 ليعيد اكتشاف نفسه، ويبحث عن هويته المشوهة الضائعة، بعد عقود من الاحتلال ومن حكومات الدولة القومية. رحلة إعادة اكتشاف الهوية بدأت إذن، لكن ما يزال أمامها الكثير لكي تصل إلى غايتها. آخر محطات الرحلة، حتى الآن، هي تفكك “التحالف العدواني” الذي يشن حربا ظالمة راح ضحيتها آلاف اليمنيين. استيقظ اليمنيون في آب/أغسطس على أصوات عيدروس الزبيدي وهاني بن بريك وشلال علي شايع، وهم يتحركون عمليا لتحقيق استقلال إرادة الجنوب عن الشمال. الأول والثالث ينتميان إلى مدرسة الحزب الاشتراكي، بينما الثاني ينتمي إلى مدرسة السلفية الإسلامية. في الشمال استقرت الأمور للحوثيين، أو “أنصار الله” الذين يستهدفون الحصول على صك شرعي بصحة وراثتهم للدولة المتوكلية التي استقرت في اليمن الشمالي لمدة تزيد عن الألف عام.
مفترق الطرق الحالي، وصل إليه اليمنيون على جثة التحالف العدواني بقيادة السعودية، وعلى جثة النظام العسكري الذي انتهى بخلع علي عبد الله صالح ثم مصرعه، وعلى جثة النظام الاستعماري الذي كان قد سيطر على دويلات وسلطنات الجنوب العربي منذ أربعينات القرن التاسع عشر. خلال تلك الرحلة تشوهت الهوية اليمنية بفعل اختلاط المفاهيم، وتضارب المصالح. وتستمد الهوية ملامحها من الوعي بالمكان (الموقع الإستراتيجي) والزمان (التاريخ في كلياته الشاملة) والثقافة التي تنتجها علاقة الإنسان بالمكان والزمان. وقد اكتشف اليمنيون حتى الآن، أنهم كشعب يملك إرادتين تحاول التفريق بينهما قوى إقليمية ودولية، أو مصادرتهما تماما بواسطة قوى محلية ترفع شعارات مختلفة.
الإرادة الأولى تتمدد في الشمال، والثانية في الجنوب، ولكل منهما نظام وموقع وتاريخ وثقافة، تجمعهما روابط العروبة غير الشوفينية، والإسلام غير المتعصب، والجغرافيا، التي وإن تباينت، فإنها تؤكد حاجة الجبل إلى السهل، والصحراء إلى البحر، وحاجة الإنسان إلى حرية التنقل والعمل بلا قيود. وسوف يعلم اليمنيون أن العلاقة الصحية بين الإرادتين لا تتجسد في مصادرة واحدة للأخرى، كما فعل علي عبد الله صالح بفرض وحدة القهر بطريق السلاح على الجنوب، ولا في الفصل تماما بين الإرادتين كما فعل الاحتلال البريطاني. مفترق الطرق الحالي في عملية إعادة اكتشاف الهوية يجسد الفشل التاريخي لمنهج “عسكرة السياسة” و”مصادرة الإرادة” ويمثل منصة لإطلاق الإرادة اليمينة خارج إسار تجربة الدولة الفاشلة، وبعيدا عن ثنائية الوحدة والانفصال.
التوازن السياسي
المشروع السياسي لليمن يبدأ من معطيات الهوية، ومن معادلات القوة على الأرض. وقد بلغ المشروع محطة ناضجة، تستحق التأمل. وبما أن التوازن على الأرض شمالا قد استقر تقريبا في أيدي “أنصار الله” الحوثيين منذ عام 2014 فإن التوازن جنوبا يتجه للاستقرار في قبضة المجلس السياسي الانتقالي، الذي يمثل السلطة الحاكمة حاليا. لقد انتهت فعلا حكومة “الشرعية” التي كانت السعودية قد أعلنت الحرب على اليمن لغرض إعادة تثبيتها بعد هروب رئيسها وأركانها من صنعاء إلى عدن. المجلس السياسي الانتقالي برئاسة عيدروس الزبيدي، يتكون من ائتلاف سياسي – طائفي – قبلي يمتد من عدن غربا إلى المهرة شرقا. لكنه على رغم قوته التي يستمدها من تنوعه، فإن ضعفه أيضا قد ينفجر من هذا التنوع، خصوصا فيما يتعلق بالمظاهر الثقافية والحضارية. وسوف يتعين على قيادته أن تحسن طريق إدارة التنوع والاختلاف بين المكونات المختلفة، خصوصا بين أبناء الاشتراكي وبين أهل السلف في مجتمع يميل كثيرا إلى الانفتاح والتحضر مقارنة بالشمال.
التوازن العسكري
الوضع اليمني بشكل عام يتجه صوب القليل من الحرب والكثير من السياسة بسبب التغيرات التي طرأت على الأرض. ورغم ما أعلنته الإمارات عن الانسحاب عسكريا، فإنها لا تزال صاحب النفوذ الأعظم بما لها من سطوة سياسية ومالية وعسكرية على أطراف الصراع في الجنوب. وتتولى الإمارات عمليا حتى الآن تسليح وتدريب وتمويل الألوية المسلحة والميليشيات القبلية (مثل النخبة الشبوانية، والنخبة الحضرمية). ويبدو التوازن العسكري الآن على النحو التالي:
-ألوية الحماية الرئاسية المدعومة من السعودية خرجت مهزومة من الجنوب بشكل عام، ومن عدن بشكل خاص، وفقدت وجودها تماما، حيث عاد معظم الشماليين إلى الشمال والتحق معظم الجنوبيين بوحدات عسكرية خاضعة لقيادة المجلس الانتقالي.
-ما تزال للسعودية وحلفائها قوات في محافظة المهرة، وفي مأرب والبيضاء، تحت قيادة رجل الإصلاح الأول علي محسن الأحمر، وكذلك في تعز المقسمة بين سيطرة الحوثيين وسيطرة قوات الأحمر التابعة لحكومة هادي. السعودية أيضا لها قوات في سقطرى.
-تنتشر القوات الخاضعة لقيادة المجلس الانتقالي المدعومة إماراتيا في قواعد عسكرية في ميناء البريقة (قيادة الحزام الأمني) وقاعدة (العند العسكرية) في لحج، وقاعدة (بدر) التي تضم معسكر القوة الجوية في مطار عدن، والقوة العسكرية التي يقودها طارق صالح جنوب الحديدة، إضافة إلى ميليشيات السلفيين في عدن وبعض المدن الرئيسية في الجنوب. كما توجد في أبين قوة عسكرية مهمة موالية للمجلس الانتقالي تحت قيادة عبد اللطيف السيد.
-التحديات التي تواجهها المعادلة العسكرية الجديدة في اليمن الجنوبي، تتمثل في وجود خلايا مسلحة لتنظيمي القاعدة و”داعش” المرتبطين بعلي محسن الأحمر، إلى جانب خطورة غارات الطيران التي يمكن أن تشنها السعودية في حال محاولة تغيير الوضع بالقوة، وهي ستفشل إن حاولت.
-لا يمكن أيضا التهوين من خطورة نشوب صراع مسلح بين الحوثيين، وبين المجلس الانتقالي. أهم أسلحة الحوثيين تتمثل في الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية. لكن الخبرة القتالية ترجح أنهم سيتجنبون ذلك لثلاثة أسباب: الأول أنهم انهزموا في الجنوب بالأمس القريب وخرجوا مدحورين، والثاني أنهم لن يحاربوا في جبهتين في وقت واحد، وسيستمرون في تفضيل أولوية الحرب على السعودية وتطبيع الأوضاع في صنعاء والحديدة، والثالث هو أن التوازن الاستراتيجي الجديد في الجنوب يفرض تنسيقا عاليا بين أطراف إقليمية بما يتجاوز مصالح الأطراف المحلية.
ثلاث مشاكل كبرى للسعودية
لكن الوضع العسكري في الجنوب لا يتوقف على معادلة التوازن الداخلي فقط، وإنما يجب أن يأخذ في اعتباره ظروف الحرب التي تشنها المملكة السعودية على اليمن. السعودية الآن هي الخاسر الأكبر، وهي تواجه من الناحية العسكرية ثلاث مشاكل كبرى، الأولى أنها دخلت الحرب بدون خطة بديلة، أو ما يسمى (الخطة باء). بن سلمان أعلن الحرب بخطة واحدة هي الحرب ثم الحرب ثم الحرب حتى إعادة تثبيت حكومة الشرعية في صنعاء. الآن لا صنعاء ولا عدن. المشكلة الثانية هي تفكك التحالف العدواني السعودي، وخروج الإمارات منه، بعد قطر، وأيضا بسبب المشاكل التي تواجهها كل من باكستان (في كشمير) والسودان (بعد تشكيل مجلس سيادة عسكري/مدني). أما المشكلة الثالثة فهي تزايد الضغوط من أجل وقف إمداد السعودية بالذخائر والأسلحة على مستوى العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، وهو ما يهدد خطوط الإمداد العسكري للسعودية، ويضع قيودا على مجهودها العسكري في اليمن.
في مواجهة هذا الوضع العسكري الصعب، فإن القوات السعودية، بما في ذلك سلاح الطيران ستجد نفسها عاطلة عن العمل، وربما محظورة النشاط. يضاف إلى ذلك أن الأمم المتحدة لن تشغل نفسها بالبحث عن (الرئيس الشرعي) عبدربه هادي في فنادق الرياض، وإنما سيتعين عليها أن تتعامل مع وضع جديد في اليمن، توجد فيه حكومتان مدعومتان محليا وإقليميا، واحدة في صنعاء وأخرى في عدن.
نظرا لذلك، فإن السعودية تحاول الآن ممارسة سلطة (دولة الانتداب) على اليمن بدون وجه حق وبدون تفويض دولي. وقد وجهت الرياض دعوة للحوار بين المجلس الانتقالي وبين ما تسميه “حكومة الشرعية” وأرسلت إلى عدن لجنة لاستلام المعسكرات والقواعد العسكرية التي تخضع حاليا لسلطة المجلس السياسي الانتقالي، ودعت المجلس للانسحاب منها. من ناحيته أعلن رئيس المجلس الانتقالي استعداده لحوار بلا قيد ولا شرط، لكن إجماع قوى المجلس قد انعقد على طلب تصفية المشاركة السياسية في الحكومة للتجمع اليمني للإصلاح بقيادة علي محسن الأحمر، وإبعاد فلول المؤتمر الشعبي، ورفض تسليم القواعد والمعسكرات، علما بأن القصر الرئاسي في معاشيق مهجور فعلا ولا توجد فيه قوات. ويبدو أن السقف السياسي لمليونية النصر في عدن يوم الخميس 15 آب/أغسطس كان أعلى بكثير عما أعلنه قادة الانتقالي.